ويقول ابن المقفع: (تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام؛ ومن حسن الاستماع: إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه. وقلة التلفت إلى الجواب. والإقبال بالوجه. والنظر إلى المتكلم. والوعي لما يقول).
لا بدّ في الحوار الجيِّد من سماع جيِّد؛ والحوار بلا حُسْن استماع هو (حوار طُرْشان) كما تقول العامة، كل من طرفيه منعزل عن الآخر.
إن السماع الجيِّد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء، وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه. حسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب، واحترام الرجال وراحة النفوس، تسلم فيه الأعصاب من التوتر والتشنج، كما يُشْعِرُ بجدّية المُحاور، وتقدير المُخالف، وأهمية الحوار. ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى النتيجة
4 - تقدير الخصم واحترامه:
ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف، وإعطاء كل ذي حق حقه، والاعتراف بمنزلته ومقامه، فيخاطب بالعبارات اللائقة، والألقاب المستحقة، والأساليب المهذبة.
إن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق، والبعد عن الهوى، والانتصار للنفس. أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم.
وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام، لا ينافي النصح، وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة. فالتقدير والاحترام غير المَلَقِ الرخيص، والنفاق المرذول، والمدح الكاذب، والإقرار على الباطل.
ومما يتعلق بهذه الخصلة الأدبية أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية المطروحة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والنقد والإثبات والنَّقص بعيداً عن صاحبها أو قائلها، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية؛ طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشات التصرفات، والأشخاص، والشهادات، والمؤهلات والسير الذاتية.
5 - حصر المناظرات في مكان محدود:
يذكر أهل العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور؛ قالوا: وذلك أجمع للفكر والفهم، وأقرب لصفاء الذهن، وأسلم لحسن القصد، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء، والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل.
ومما استدل به على ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} (سبأ:46).
قالوا: لأن الأجواء الجماهيرية والمجتمعات المتكاثرة تُغطي الحق، وتُشوِّش الفكر، والجماهير في الغالب فئات غير مختصة؛ فهي أقرب إلى الغوغائية والتقليد الأعمى، فَيَلْتَبسُ الحق.
أما حينما يكون الحديث مثنى وفرادى وأعداداً متقاربة يكون أدعى إلى استجماع الفكر والرأي، كما أنه أقرب إلى أن يرجع المخطيء إلى الحق، ويتنازل عما هو فيه من الباطل أو المشتبه.
بخلاف الحال أمام الناس؛ فقد يعزّ عليه التسليم والاعتراف بالخطأ أما مُؤيِّديه أو مُخالفيه.
ولهذا وُجِّه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يخاطب قومه بهذا؛ لأن اتهامهم له كانت اتهامات غوغائية، كما هي حال الملأ المستكبرين مع الأنبياء السابقين.
ومما يوضح ذلك ما ذكرته كتب السير أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه، وكلٌ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا؛وقال بعضهم لبعض لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً،ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود. فتعاهدوا على ذلك. ثم تفرقوا. فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج، حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: يا أبا ثعلبه، والله لقد سمعت أشياء
¥