[ذكرياتي مع الكتاب]
ـ[فهد الجريوي]ــــــــ[27 May 2010, 06:39 م]ـ
الحمد لله الذين زين العالمين بالعلماء، وجعلهم لهداية الأنام أنجما، وجعل نور علمهم يهتدى به في غياهب الجهالات، كما يهتدى بأنجم السماء في دياجي الظلمات، وأشكره على ما أودع في أصداف الكلم، من فرائد المعاني وجواهر الحكم، وأصلى وأسلم على رسوله المبعوث بجوامع الكلم، وبدائع الحكم، صلى الله عليه وعلى آله الذين لا يعتري الكسوف بدر حسبهم الكامل، ولا يُخلق جدته توالي البكر والأصائل، وأصحابه فرسان اللسان العربي المبين، الحائزين منه كل أسلوب غريب ومعنى متين، صلاة وسلاماً أزكى وأذكى من شذا الأزاهر، ما غردت حمائم الأقلام والعنادل، فوق رؤوس أغصان الأنامل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
مدى الدهر ما فاح الأريج لناشق =من الزهر في روض بِمَرّ نُسَيْمةِ
وما ابتسم الروض الأريض تعجباً=لفرط بكاء السحب في وقت صُبْحَةِ
أما بعد: فأسأل الله فالق الحَبّ، وعامر القلب بالحُبّ، أن يصون لي حظي منكم، ويدرأ لي النوائب عنكم.
معاشر الفضلاء، من المعلوم المحفوظ قول الجاحظ في بيانه:
(الكتاب نعم الجليس والذخر، إن شئت ألهتك بوادره، وأضحكتك نوادره، وإن شئت أشجتك مواعظه، وإن شئت تعجبت من غرائب فوائده. وهو يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والغائب والحاضر، والشكل وخلافه، والجنس وضده. إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وأكثر علمك، وتعرف منه في شهر ما لاتعرف من أفواه الرجال في دهر).
ولقد تكاثرت الأخبار وتواترت عن شغف أهل العلم وعنايتهم بالكتاب، وتقديمه على ما سواه، وذلك مبثوث معلوم في كتب السير والتراجم، وما أجمل ما قاله ابن القيم في روضة المحبين: (وأما عشاق العلم فأعظم شغفاً به وعشقاً له من كل عاشق بمعشوقه، وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر). وقال: (ولو صور العلم صورة؛ لكانت أجمل من صورة الشمس والقمر).
حبيبي من الدنيا الكتاب فليس لي =إلى غيره ما بي إليه من الفقر
كأن لصوق الروح بالروح مانح=دنواً بلا بعد ووصلاً بلا هجر
فكرسيه حجري إذا كنت قاعداً =وإن أضطجع أفرشه مستلقياً صدري
ويقول الآخر:
خليلي كتابي لا يعاف وصاليا =وإن قلّ لي مال وولى جماليا
كتابي عشيقي حين لم يبق معشق=أغازله لو كان يدري غزاليا
كتابي جليسي لا أخاف ملاله =محدث صدق لا يخاف ملاليا
كتابي دليل لي عل خير غاية =فمن ثَمّ إدلالي ومنه دلاليا
لذا أحببت حفظكم الله في هذه المقالة شحذ هممكم لتدوين ما مرّ بكم من ذكريات ومواقف مع الكتاب سواء في صعوبة تحصيله، أو ملازمة قراءته والشغف به، وكذلك التأثر ببعض الكتب، وكيفية بناء المكتبة، ونحو ذلك من لطائف وطرائف ومداعبات تكون مفيدة ونافعة سواء للمبتدئين أو للمنتهين، ولا بأس أن يأتينا أحد بمواقف من عناية المعاصرين بالكتاب فهذا حسن، وأتمنى عدم سرد مواقف للمتقدمين فكتب السير مليئة بمواقفهم رحمهم الله ولسنا زاهدين بها، لكن النفس تعلق وتتأثر بالقريب المعاصر، أكثر منها في السابق لكثرة الصوارف والأشغال مما هو معلوم لديكم، وكذلك نريد الجدة في الموضوع ولا نريد التكرار. ولعلي أفتتح هذه الذكريات بحادثتين الأولى للشيخ عبدالفتاح أبو غدة، والشيخ عبدالرحمن الشهري، علّ الله جلا وعلا بمنه وكرمه أن يفتح علينا وعليكم ويرحمنا جميعاً.
يقول الشيخ عبدالفتاح أبو غدة رحمه الله في كتابه صفحات من صبر العلماء:
كنتُ في أيام الطلب والتحصيل مُمْلِقاً كأكثر طلبة العلم، وكنتُ أشتري من الكتب ما أستطيعُ شراءه بالاقتطاع من نفقتي الضيقة، بالنقد الحاضر أو بالدَّين الآجل إذا أمكن. وعرضتْ لي يوماً بعضُ كتبٍ نادرة تهمني جداً، ورغبتُ في اقتنائها، ولكني كنتُ في إملاق شديد، فلا سبيل إلى شرائها! وقَلِقَ قلبي وخاطري من جرَّاء ذلك، فبعتُ (شالتي) التي ورثتها من أبي رحمه الله تعالى في (سُوق الحراج)، واشتريتُ تلك الكتب، وأرحتُ قلبي وخاطري، وفرحتُ باقتنائها ووصولي إليها فرحاً عظيماً أنساني فقدَ (الشالة) والحمدُ لله. وكنتُ في بعض الأحيان أنذرُ لله تعالى صلاةَ كذا وكذا ركعةً، إذا حصلتُ على الكتاب الفلاني، ووقعتْ لي واقعة في شأن الحصول على كتابٍ، أسجّلها هنا استطراداً
¥