[نريد ربع العشر يا حملة الشهادات]
ـ[فهد الجريوي]ــــــــ[16 May 2010, 02:37 م]ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية طيبة وبعد:
دخلت أحد المكاتب وكان فيها ثلاثة من الموجهين التربويين، أعرفهم كلهم من أهل الفضل، فرأيت أحدهم بعد أن تمعر وجهه يقول: الله المستعان (ومد بها صوته) سبعين، ووضع رأسه على يده، فلم أشك أبداً أنهم يتحدثون عن المسلمين المستضعفين سواء في فلسطين أو غيرها، فقلت مستفهماً ما الأمر؟ (وليتني لم أسأل) فقال لي: كرتون الطماطم أصبح بسبعين ريال.
فكان عجبي من هذا الأمر بالغاً، وأصبت بحزن بالغ فخرجت ولم أمكث عندهم، ولأول مرة أرى من يتلون وجهه إذا انتهكت أرقام المبيعات، وهذا والله ما رأيت وما سمعت لا أتزيد فيه ولا أنقص. هذه صورة مختصرة لحال كثير من مجالس أهل الفضل للأسف الشديد الذين بعد أن نالوا ما نالوا من الشهادات العليا وأخص أهل الشريعة، رجعوا بعدها بسنوات أشباه العوام في أحاديثهم وما يطرقونه من موضوعات، فلا تحفل بمجلس من مجالسهم بفائدة أو نادرة أو أمر علمي يفيد في أخراهم، فأصبح المجلس تقضيه معهم ويمتد ثلاث ساعات أو أربع وكل شيء يذكر فيه، إلا ما له فائدة علمية وإن أخطأ أحد وذكر أمراً علمياً استثقلوه وحاولوا صرف الحديث لأمر آخر، هذا الصنف من الناس يقول عنهم الدكتور محمد السيد وأحسن فيما قال:
(كنت ملول الطبع ولا سيما إذا أكرهت على جلاس لا يفيدون علماً، ولا ينشرون من التاريخ عبراً، هذه النماذج البشرية التي لا تجد في كلماتها إلا لكمات للحياة الجادة، يجرجر أحدهم عمره في سوح العجز، يموت أسى، ويقضي كمداً إذا خسر بضع دريهمات في صفقة عقدها، أو وقعة اقتصادية شهدها، ولكن خسارة عمره لم ترفع منه رأساً، ولم تعل صوتاً، وأنى يرفع رأسه وهو لم يتعهد إلا فراغ جيوبه، ولم يدرْ بخلده أن في رأسه، بل في قلبه أوعية بملئها يتميز البشر، ويتفاضل الخلق، لشدّ ما تألمت على هؤلاء الذين يصرفون أعمارهم في هروب منظم، ولا تبخل ذاكرة العجز باسم مهذب لهذا الفرار، وما أكثر الأسماء المرفوعة والمسميات المخفوضة).
ولا أعرف يشهد الله أثقل على نفسي من هذه المجالس الفارغة، ولذلك أشق الأمور عندي حضور حفلات الزفاف، نعم لا شك أنها صلة وقربة ولذا نحرص عليها أن لا تفوت، لكن فيها وقت مهدر لا أحبذه، ولذلك استحدثت لي طريقة وهي كتاب الجيب، وبعد السلام والسؤال عن الحال أجلس في زاوية من زوايا القصر وأقرأ، لكن للأسف هذه الخطة لم تنجح، حيث حضر معي الوالد مرة زواجاً فغضب عليّ وقال ما تخشى على نفسك من العين!! فابتسمت وانصعت ولم أكررها مرة أخرى.
وفي كثير من الأحيان تقدم لي دعوات لحضور بعض المجالس الخاصة مع بعض الشيوخ إما بعد محاضرة تلقى، أو مناسبة من المناسبات فأكون شديد الزهد فيها، لأني حضرت مثل هذه المناسبات لكن أصدم بما يدار فيها، خاصة إذا كانت مع أناس أعظمهم في نفسي، وأخرج من هذه الساعة، أو الساعتين وأقول في نفسي: إذا كانت مجالس الخاصة مثل هذا فماذا أبقينا للعوام؟! وإذا اضطررت للحضور سألت الله: أن يستر عنيّ عيب الشيخ، ولله الحمد في كثير من الأحيان أخرج منفرج الأسارير.
وليست هذه دعوة لإطفاء قناديل الفرح من مجالسنا، ولا وئد المتعة، أبداً، لكن ينبغي الاعتدال وأن تصبغ المجالس التي نجلسها بصبغة مفيدة، ونحليها بإثارة موضوعات فيها نفع، نترك فيها أثراً قبل رحيلنا للدار الآخرة، خاصة إذا كان فيها جملة من أهل الفضل وحملة الشهادات.
والطرفة والنادرة والفكاهة مطلوبة ومهمة، وبالنسبة لي فلا أملها وأحبها ولذا قرأت الكتاب المنسوب لابن الجوزي أخبار الحمقى والمغفلين أكثر من مرة وأحفظ جزء كبيراً منه، ولا تقع عيني على كتاب فيه طرائف وابتسامات إلا اقتنيته وقرأته وقيدت ما يعجبني، وأقطع في كثير من الأحيان ملل الدروس التي تلقى في المسجد بشيء من هذه النوادر، وكذلك في المجالس الخاصة. والله يعلم كم من مرارات تأتي في النفس عند مجالسة ثقلاء الروح، وما أظرف الأعمش حين قال (وهو من مزاحه): إذا كان عن يسارك ثقيل وأنت في الصلاة فتسليمة عن اليمين تجزئك!. ولولا أن قوله لا يحظى بالدليل لفعلناه.
وأختم هذه المقالة بطرفتين من باب الابتسامة، وخفة الظل، وحتى لا أتهم بنشر ثقافة التجهم في المجالس!
قال أبو جعفر محمد بن جعفر البرتي: مررت بسائل على الجسر وهو يقول: (مسكيناً ضريراً). فدفعت إليه قطعة وقلت له: لم نصبت؟ فقال: فديتك، بإضمار (ارحموا)!.
ولما مات عن أم سلمة بنت يعقوب زوجها أبو العباس السفاح (أمير المؤمنين) لم تضحك بعدها، فأدخلوا عليها أبا دلامة عسى أن يضحكها، فأنشدها مرثية رثاه بها، فقالت: ما وجدتُ أحداً حزن على أمير المؤمنين حزني وحزنك. فقال: لسنا سواء رحمكِ الله، أنتِ لك منه ولد، وليس لي منه ولد!. فضحكت وقالت: لو حدثت الشيطان لأضحكته!.
أنبه أيها الفضلاء أن ما تقدم ذكره أقصد به المجالس التي تجمعك بأهل العلم وحملة الشهادات، أما مجالس العوام وكبار السن وزملاء العمل، فلا يصح إشغالهم بدقائق المسائل، وينبغي لنا أن نتشكل لهم، ونؤنسهم بالمشاركة في اهتماماتهم، وأن نلبس لكل حالة لبوسها. ولا أشك أن في المجالس ما تنعم به النفس وتقر به العين، ولكني نقلت صورة من بعض المجالس غير المرضية. أدام الله عليكم نعمه وفضله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
¥