[سلمان العودة ومحمد عابد الجابري .. إشكالية التبسيط المخل]
ـ[أبو سعد الغامدي]ــــــــ[18 May 2010, 11:27 ص]ـ
وافاني صديقنا النابغة الشيخ المتفنّن بندر بن عبدالله الشويقي – أسعد الله أيامه – برسالة كريمة، حملتْ جواباً من الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة – حرس الله مُهجته – عن سؤال ورد إليه بخصوص الدكتور محمد بن عابد الجابري، فأفاض الشيخ في الجواب بما رأيت أنه يحمل تبسيطاً مخلاً عن حال الجابري.
وللشيخ سلمان قدم صدق في الدعوة وآثار حميدة في الصحوة ومعرفة عزيزة في العلم، غير أن جوابه المُشار إليه آنفاً قعد به عن النهوض إلى حيث بلغ، فقد كان جواباً منقوصاً غير واف، كما أنه تضمّن في ثناياه – بحسب ما ظهر لي من سياق الجواب - قلة اطلاع ومعرفة من الشيخ بالجابري.
وإن آية نقصه أن أشار الشيخ إلى كتابين للجابري هما "تفسيره" بما حوى من "المدخل" وهو من أواخر ما كتبَ، والثاني "دراسته عن ابن خلدون" وهو من أوائل ما كتب – دع ذكره لسيرته الذاتيّة "حفريات في الذاكرة" فالسير الذاتية ضربٌ من الهذيان - وهذان الكتابان لا يؤخذ عنهما فكر الجابري ولا يؤسسان منهجه.
أما الأول منهما فهو كتاب حيكت خيوط فصولهِ بوعْي"عرفانيٍّ" "بيانيٍّ" من رجل يرى "العقلَ البرهانيَّ" متفرداً بأحقية التأصيل وبناء الاستدلال، فلا مكانة له إذاً في فكر الرجل وإلى مدرسته نحاكمه، أو هو كتاب "سواليف" بحسب تعبير صاحبنا العذب الدكتور محمد العبدالكريم – متعه الله بالعافية -، وأما الثاني فهو دراسة اجتماعيّة سياسيّة، وكتاب عادي لا يمثل ذروة الإنتاج العقلي والمعرفي والبحثي للجابري.
والشيخ سلمان – وفقه الله – طلب من الباحثين في حال الجابري أن يقرؤوه قراءة وافية شاملة، وأن هذا أقوم قيلاً وأكثر إنصافاً، وهذا – والذي علّم بالقلم – من العدل الذي قامت عليه السموات والأرضون، وهو الحكم القسط والقضاء الأسنى، غير أني لم ألمس هذا في الشيخ – أعلى الله مقامه – بل رأيته يحيل على كتبٍ لا تمثّل الجابري ولا فكره، ويختزلُ إخلاص الجابري ودينه وإيمانه في كتاب واحدٍ من مؤلفاته، بل في عبارات يسيرة منه! معرضاً عن الإشارة للبقيّة أو آتياً عليها بالذكر مع أن فيها ما ينقض ذلك ويهدمه! وهذا نقض صريح للمنهج الشمولي الذي يقرّرهُ.
فلم أر الشيخ يُحيل على ثلاثيته المعروفة في نقد العقل العربي "تكوين العقل العربي" و"بنيّة العقل العربي" و"العقل السياسي العربي" وهي التي تمثل ذروة ما كتبه الجابري، ومشروع عمره الذي أفنى فيه طاقة بحثه ونشاط ذهنه ومنتهى فكره، وأسقط من خلال نظريّته الخاصة بعصر التدوين تراثَ المسلمين وأزرى به وحكم عليه بالهشاشة داعياً إلى تجاوزه وانبعاث عصرٍ جديدٍ للتدوين وإسلام القياد للعقل البرهاني فهو الملاذ وإليه المنتهى، وتعظيمه المطلق للفلاسفة ولإنتاجهم العقلي، و "ثلاثيّته" هي التي جعلت عامة المنتقدين له ينفرون منه ويقرؤون في مؤلفاته اجتراراً مكرّراً لمناهج بحث المستشرقين في الإسلاميات وبالأخص منها موارد الشريعة وترديداً لمقولاتهم، وإن تنوّعت الأساليب واختلفت العبارات فمآلاتهم متفقة، ويجعلون من هذه "الثلاثية" ثورة باطلة على أصول المعرفة في الإسلام، وموارد استمداد الأحكام الشرعيّة، ومناهج البحث المعتبرة لدى المسلمين.
وفي تحقيقه وتعليقه على "تهافت التهافت" لابن رشد من تعظيم الفلاسفة والميل إليهم وتوقير مذهبهم وأنهم رواد البحث العلمي الحر النزيه والحط على منتقصيهم – وعلى رأسهم علماء الشريعة - ووصفهم بالمؤدلجين واتهامهم في شرف مقصدهم وحسن غرضهم والنيل منهم بطريقة سافرة منكرة شيء كثير تنفر عنه النفوس المطمئنة بالإيمان.
ولم أره يُحيل على كتاب "نكبة ابن رشد" وهو الكتاب الذي باح بمكنون فكره فأعاد مناهج البحث في الإسلاميات لدى المستشرقين إلى الواجهة، وكرّر شبههم حول العلماء ومواقفهم دون أن يُغادر منها صغيرة أو كبيرة إلا أوردها، ومن قرأ هذا الكتاب علم كيف أن الجابري ارتوى فتضلّع من مناهج المستشرقين فلما كتب وألف تجشّأ ذلك كله.
¥