قال حاتم الأصم: "لا تغترّ بموضع صالح، فلا مكان أعلى من الجنة، وقد لقي آدم عليه السلام فيها ما لقي، ولا تغترّ بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول تعبّده لقي ما لقي. ولا تغترّ بكثرة العلم فإن بَلعام كان يحسن اسم الله الأعظم فانظر ماذا لقي، ولا تغترّ برؤية الصالحين فلا شخص أكبر منزلة عند الله من المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه"، لأن المهم -قبل كل ذلك- أن يتكلم الغيب الذي فيك، وأن تفقه وتعلم وتقصد أن تعمل.
روي عن ابن أبي ميسرة أنه كان إذا آوى إلى فراشه يقول: "يا ليت أمي لم تلدني"، فقالت له أمه: يا ميسرة إن الله تعالى قد أحسن إليك، هداك إلى الإسلام. قال: "أجل، ولكن الله قد بيَّن لنا أنا واردو النار، ولم يبين لنا أنا صادرون عنها". انظر كيف تكلم الغيب في أبي ميسرة فعرف الفروق بين الورود والصدور.
وقال ميمون بن مهران: لما نزلت هذه الآية ?وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ? (الحجر:43)، صاح سلمان الفارسي رضي الله عنه ووضع يده على رأسه، وخرج هاربا ثلاثة أيام لا يقدرون عليه". فأي غيب مكنون تحرك في سلمان فأبصر المستقبل من خلال ?وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا? (مريم:71).
قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ابْكوا فإن لم تبكوا فتباكوا، فوالذي نفسي بيده لو يعلم العلمَ أحدُكم لصرخ حتى ينقطع صوتُه، وصلى حتى ينكسر صُلبه"، وكأنه أشار إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً"،
ولكن لماذا لا نعلم العلم؟ لأن الشهادة الموجودة فينا وحدها هي التي تتكلم، أما "الغيب" الذي فينا فقد أخرسناه، حتى لا يتكلم.
عندما أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم أشهدهم على أنفسهم. لكن كيف شهد جميع بني آدم على أنفسهم؟ وأيّ بني آدم كانوا، أأبناء الحاضر المخاطب أو أبناء المستقبل؟ وأين كانوا عندما أدّوا هذه الشهادة الخالدة؟ وبأي لغة تكلموا؟ كان "الغيبُ الواعي" الذي فيهم هو الذي يشهد ويتكلّم:
"ألستُ بربكم؟ "
أجاب الغيب الجماعي الكامن فيهم: "بلى".
وهكذا شهدوا على أنفسهم بلغة الغيب الواحدة التي تتكلم دون إرادتهم .. لغة القوة التي لا تحبسها إرادة، ولا يحدها زمان، ولا يحكمها وعي .. لغة الماضي والحاضر والمستقبل: ?وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ? (فصلت:21).
خلقكم أول مرة فاعترفتم بربوبيّته
وقلتم: "بلى، شهدنا على أنفسنا". وخلقكم ثاني مرة، أعادكم بعد بعثكم الثاني ?وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ?، فتكلمَت عنكم جلودكم، أنطقها الله الذي أنطقكم أول مرة.
في البداية تكلم الغيب الكامن فينا معترفا بالربوبية. وفي النهاية تكلم الغيب الكامن فينا معترفا بقدرة القادر، وإبداع الخالق.
وبين البداية والنهاية تكلمت فينا قوى كثيرة، لكنها قوى الشهادة.
أما قوة الغيب الكامن فينا: قوة الفطرة والوعي والكهرباء المبثوثة في كياننا .. في قلوبنا وأرواحنا وأسماعنا وأبصارنا .. قوة النواة اللاشعورية والخليّة الحية الدائمة .. قوة المضغة التي لو صلحت صلح الجسد كله، والروح التي كانت في البدء، وتبقى معنا، تغدو وتروح حسب فاعليتنا وحضورنا، فإما غبنا فتوفاها الله حين غيابنا في نومنا أو موتنا؛ وإما حضرنا فأرسلها الله إلى أجَلنا المسمى .. أما قوة الغيب هذه فهي التي يجب أن نستثيرها لتتكلم فينا، بل لتعمل فينا، بل لتقودنا.
استفتِ قلبك، إنه قوتك الحقيقة، وهو المصلح والقائد ... استشره دائما، واخضع له ولا تخضع لقوى الشهود حين تختلّ في يدها الموازين.
أما موازين الداخل، موازين الغيب الكامن فيك، فهي لا تختل أبدا،
شريطة أن تحفظها بسور البداية: ?أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى? (الأعراف:172)، وبسور النهاية: ?قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ? (فصلت:21).
http://www.hiramagazine.com/archives...D=229&ISSUE=11 (http://www.hiramagazine.com/archives_show.php?ID=229&ISSUE=11)