وهو ما دفع المتطرف العلماني أحمد عصيد إلى الخروج عن صمته والبوح بأن "بعض المغاربة ـ رجالا ونساء وحتى الأطفال أحيانا ـ يظلون متخشبين أمام قنوات البترول الدينية؛ يستهلكون جرعات هائلة من الأيديولوجيات الدينية باسم الفتوى؛ ويسعون إلى العمل بها على أنها الحق؛ دون مراعاة لخصوصية المغرب الثقافية والتاريخية والجغرافية (13 كلم عن أوروبا) " (حمى الإفتاء: دلالات وأبعاد؛ الجريدة الأولى عدد591 بتاريخ 21/ 04/2010).
مع ملاحظة أنه لم يذكر أبدا الخصوصية الدينية وأصر على فصل المغرب عن امتداده العربي والإسلامي وربطه بالقارة الأوربية! وذلك لتعصبه للأمازيغية. ونحن نعلم أن المساس بالدين في المغرب وعدم الاعتراف به يعد مسا خطيرا بثوابت البلد؛ فما بالك من ينتقص منه ويعلن الحرب عليه. لكن متى سيحاسب التطرف العلماني الذي لا يعترف بقيم ولا دين ولا ثوابت؟
وقال عصيد في المقال ذاته مهاجما العلماء حاشرا إياهم في صفوف العرافين وصانعي الكلام؛ واصفا الفتوى بـ"الوباء الذي ينتشر عبر الهواء": (لا نجد فقيها يتعفف عن الفتوى أو يقول في بعض الأمور كما قال النبي محمد "أنتم أعلم بشؤون دنياكم")، كذا قال دون أن يصلي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما هي عادته في كل مقالاته؛ ليتضح لنا جليا منزلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في نفوس العلمانيين.
ثم إن استدلال عصيد بالحديث في هذا المقام يكشف مقدار أميته الشرعية وأنه لا يعرف من الإسلام إلا اسمه؛ ذلك أن الحديث الذي استند إليه في هذا الباب قد ورد كما هو معروف ومشتهر بخصوص تلقيح النخل وقد خرج -كما قرر العلماء ذلك- مخرج الرأي لا التشريع، وبوب الإمام النووي على الحديث بقوله: "باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا على سبيل الرأي".
وما دام السيد عصيد يعتبر الإسلام (كتابا وسنة) مظهرا من مظاهر التخلف؛ فكيف يسمح لنفسه -وهو الحداثي المتنور- أن يستدل -ولو استدلالا خاطئا- بكلام يعتبره كلاما قرسطويا لم يعد صالحا لهذا الزمان؟ ثم كيف يسمح لنفسه أن يكيل بمكيالين؛ فيستدل هنا لإثبات شبهته بالحديث؛ ويرفض ويشجب قول من يستدل عليه بالنصوص الشرعية في موطن آخر؟
يجب أن نعلم جيدا أن العلمانيين لا يعادون الفتوى لأنها وهابية أو شرقية (ولا يضرها ذلك ما دامت توافق الشرع الحنيف) كما يزعمون؛ لكنهم يعادون الفتوى لأنها تخالف عقيدتهم ومذهبهم؛ وتربط الناس بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ وتخالف ما نصت عليه مواثيق الأمم المتحدة ومبادئ حقوق الإنسان التي وضعها الغرب وهو يمارس أبشع صور الظلم والعتو والطغيان في أوطاننا.
وقد عبر محمد الساسي في استجواب أجرته معه جريدة الحياة (العدد 101 بتاريخ 15 - 21 أبريل 2010) عن ذلك صراحة حين قال: "أبحث من بين كل الفتاوى عما هي ضد الحداثة وحقوق الإنسان والديمقراطية والعقل والقانون". والمعنى نفسه أكدته سابقا خديجة الرياضي رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان حين ادعت: "أن مفهوم الإفتاء يتناقض مع مقومات دولة الحق والقانون". بمعنى أن محاكم التفتيش العلمانية تبحث ضمن الفتاوى عما يخالف العقيدة الكونية الجديدة؛ عقيدة المتسلط المستبد؛ لفرضها على الناس قسرا؛ وإكراههم على الدخول فيها عُنوة، وهم المتشدقون دوما بحرية العقيدة والعبادة! فبالرغم من أن الفتاوى التي أقام العلمانيون الدنيا حولها هذه المرة ولم يقعدوها صدرت أغلبها عن أعضاء بالمجالس العلمية والمجلس العلمي الأعلى؛ أي عن أشخاص يمارسونها في المؤسسات الدينية الرسمية؛ إلا أنها لما خالفت العقيدة الكونية الجديدة قام حراس حدودها بالثورة وأعلنوا الانتفاضة ضدها، فوسموا الفتاوى الشرعية بأقذع الأوصاف وأشنع الصفات؛ ونعتوها بالفتاوى الماضوية التي تكرس المنطق الأبوي الذكوري، وتعادي أصول التربية الحديثة، وتناهض العلم وحقوق الإنسان، وترفض المساواة بين المرأة والرجل، وتعتمد التمييز على أساس الدين؛ وتجيز العنف والتسلط، وتمس بكرامة الأشخاص وبالحق في الاختلاف، وتقدم قراءة متزمتة للشريعة الإسلامية، وتوجه الدعوة إلى الناس للسير في اتجاه مناقض لما يرسمه القانون وينص عليه.
وقد أجاب الساسي حين سئل أن بعض الفتاوى التي تصدرها يومية التجديد صادرة عن أعضاء بمجالس علمية وبالمجلس العلمي الأعلى أي من أشخاص يوجدون بمؤسسات تشرف عليها الدولة؛ فأجاب: "هل هذه الفتاوى تعتمد منهجا أصوليا أم لا؟ فإذا كانت كذلك فهذا يعني أن المصدر الذي تصدر عنه ذو طبيعة أصولية".
ليتضح بذلك أن الهجوم العلماني على ما يسمونه زورا وبهتانا الدعوة الوهابية والحركات السلفية .. ؛ هجوم يستهدف الدين الإسلامي وتشريعاته وأحكامه ونظمه؛ وأن الدموع التي يذرفها بعضهم على الخصوصية الدينية ما هي إلا دموع تماسيح؛ سرعان ما تنكشف حقيقتها من خلال استقراء أقوالهم وتتبع مواقفهم. وإلا فكيف نفسر هجومهم غير المبرر على أهل الاختصاص من العلماء الرسميين؛ علماء المجالس العلمية والمجلس العلمي الأعلى بخصوص فتاوى شرعية أصدروها؟!
وفي الختام ثمة ملاحظة لا يجب أن نغفلها؛ وهي أن الفتاوى التي أغضبت الساسي ومن شاكله والمنابر العلمانية التي تسانده وتدعمه؛ أغلبها فتاوى سبق أن صدرت عن أكبر المجامع الفقهية المعتبرة في العالم الإسلامي؛ وأفتى بها كبار علماء الأمة؛ وأعضاء في مجالس علمية عديدة في المملكة؛ وعلماء مغاربة يظهرون على شاشات القنوات الفضائية؛ بمعنى أنها ليست فتاوى شاذة لا في الشرق ولا في الغرب؛ ولكن الحقد الملفوف بالجهل أوقع العلمانيين في حرج شديد".