وهذه الآية عامة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن من المؤمنات. قال القرطبي رحمه الله ويدخل في هذه الآية جميع النساء بالمعنى , وبما تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وجوب الحجاب , وقول القرطبي رحمه الله: إن صوت المرأة عورة ; يعني إذا كان ذلك مع الخضوع , أما صوتها العادي فليس بعورة , لقول الله سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} (1) فنهاهن سبحانه عن الخضوع في القول لئلا يطمع فيهن أصحاب القلوب المريضة بالشهوة , وأذن لهن سبحانه في القول المعروف , وكان النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يكلمنه ويسألنه عليه الصلاة والسلام ولم ينكر ذلك عليهن , وهكذا كان النساء في عهد أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يكلمن الصحابة ويستفتينهم فلم ينكروا ذلك عليهن , وهذا أمر معروف ولا شبهة فيه.
وأما الأدلة من السنة فمنها:
ما ثبت في الصحيحين «أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بخروج النساء إلى مصلى العيد قلن: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها إلا جلباب فقال: لتلبسها أختها من جلبابها» متفق عليه , فدل على أن المعتاد عند نساء الصحابة ألا تخرج المرأة إلا بجلباب , وفي الأمر بلبس الجلباب دليل على أنه لا بد من التستر والحجاب، وكذا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس» صحيح البخاري مواقيت الصلاة (553) ,صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (645) ,سنن الترمذي الصلاة (153) ,سنن النسائي السهو (1362) ,سنن ابن ماجه الصلاة (669) ,مسند أحمد بن حنبل (6/ 37) ,موطأ مالك وقوت الصلاة (4) ,سنن الدارمي الصلاة (1216).
وقد أجمع علماء السلف على وجوب ستر المرأة المسلمة لوجهها وأنه عورة يجب عليها ستره إلا من ذي محرم. قال ابن قدامة في المغنى: والمرأة إحرامها في وجهها , فإن احتاجت سدلت على وجهها , وجملته أن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها كما يحرم على الرجل تغطية رأسه , إلا ما روي عن أسماء أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة , وقد روى البخارى وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين» صحيح البخاري الحج (1741) ,سنن الترمذي الحج (833) ,سنن النسائي مناسك الحج (2681) ,مسند أحمد بن حنبل (2/ 119).
فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريبا منها فإنها تسدل الثوب فوق رأسها على وجهها , لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفنا» سنن أبو داود المناسك (1833) ,سنن ابن ماجه المناسك (2935) ,مسند أحمد بن حنبل (6/ 30).
وإنما منعت المرأة المحرمة من البرقع والنقاب ونحوهما مما يصنع لستر الوجه خاصة ولم تمنع من الحجاب مطلقا , قال أحمد: إنما لها أن تسدل على وجهها فوق وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل. أهـ.
وقال ابن رشد في " البداية ": وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها وأن لها أن تغطي , رأسها وتستر شعرها وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال إليها.
إلى غير ذلك من كلام العلماء. فيؤخذ من هذا ونحوه أن علماء الإسلام قد أجمعوا على كشف المرأة وجهها في الإحرام , وأجمعوا على أنه يجب عليها ستره بحضور الرجال , فحيث كان كشف الوجه في الإحرام واجبا فستره في غيره أوجب.
وكانت أسماء رضي الله عنها تستر وجهها مطلقاً , وانتقاب المرأة في الإحرام , لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك في الحديث المتقدم وهو من أعظم الأدلة على أن المرأة كانت تستر وجهها في الأحوال العادية ومعنى «لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين» صحيح البخاري الحج (1741) ,سنن الترمذي الحج (833) ,سنن النسائي مناسك الحج (2681) ,مسند أحمد بن حنبل (2/ 119).
أي لا تلبس ما فصل وقطع وخيط لأجل الوجه كالنقاب ولأجل اليدين كالقفازين , لا أن المراد أنها لا تغطي وجهها وكفيها كما توهمه البعض فإنه يجب سترهما لكن بغير النقاب والقفازين. هذا ما فسره به الفقهاء والعلماء ومنهم العلامة الصنعاني رحمه الله تعالى. وبهذا يعلم وجوب تحجب المرأة وسترها لوجهها وأنه يحرم عليها إخراج شيء من بدنها وما عليها من أنواع الزينة مطلقاً إلا ما ظهر من ذلك كله في حالة الاضطرار أو عن غير قصد كما سلف بيان ذلك , وهذا التحريم جاء لدرء الفتنة. ومن قال بسواه أو دعا إليه فقد غلط وخالف الأدلة الشرعية ولا يجوز لأحد اتباع الهوى أو العادات المخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإسلام هو دين الحق والهدى والعدالة في كل شيء , وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والنهي عما يخالفها من مساوئ الأخلاق وسيء الأعمال. والله المسئول أن يوفقنا وجميع المسلمين لما يرضيه وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إنه جواد كريم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
المرجع: مجموع فتاوى ابن باز صـ224 - 233