5ـ ركّزتْ السلفيّةُ المعاصرةُ على درس جوانب من شخصية ابنِ تيمية وتراثهِ، وأهملتْ جوانب أخرى ـ كالجانب الفكريّ والسياسيّ والسلوك الاجتماعيّ ـ لا تَقِلّ أهميّة .. ولأن كثيراً من خصوم ابن تيمية إنما عرفه عن طريق الصورة التي رسمتْها السلفية المعاصرة له؛ فإنّ ذلك ضيّق زاوية النظر لدى هؤلاء المثقّفين والمفكرين من الخصوم، فلم يتبيّنوا هذا الاتساع الهائل الذي تمتلكه هذه الشخصية الكبيرة في ذاتها وتراثها.
6ـ لابن تيميّة سلطانٌ بالغُ الأثر على عقل قارئه، لما له من هذا الأسلوبِ السيّال، والتدفّقِ المعرفيّ المُبهر، والحجّةِ العقلية النافذة، والحماسِ المتّقد لما يؤمن به .. لذا فإن قارئه يفقد مع الأيام محاكمةَ نصِّه، ويُستلب له .. على طالب العلم أن يحاذر وهو يتخرّج بتراث هذا الإمام؛ عليه أن يحاذر من أن يفقد شخصيّتَه واستقلالَه، فيفقد ما به أصبح ابنُ تيميّة ابنَ تيميّة.
7ـ كان ابن تيميّة ـ رحمه الله ـ من كبار مثقّفي عصره .. كثيرٌ من هذا الذي تقرأه في تراثه إنما هو ثقافةُ عصره الدائرة، ومعارفُه الحاضرة، ولهذا ـ وهو من المفارقات ـ ترى أن كثيراً من طلبة العلم ممن لهم بَصَرٌ وعنايةٌ بتراث شيخ الإسلام ابن تيميّة؛ يعرفون من الواقع الثقافيّ والفكريّ لعصر ابن تيميّة أكثر مما يعرفون من واقعهم الثقافيّ والفكريّ!
8 ـ أحسب أن كلّ هذا الاصطراع والاحتراب الكائن في زماننا اليوم؛ إنما يعود عند تأمّله إلى تراث وجهود خمس شخصيات مؤثرة رئيسة:
1ـ ابن تيميّة.
2ـ مارتن لوثر.
3ـ كارل ماركس.
4ـ ثيودور هرتزل.
5ـ الخميني. (تنبّهتُ إلى أن بين هرتزل والخميني شبهاً غريباً، هناك مشروعٌ أثمر عن دولة، ذاك بِنبذ فكرة المُخَلِّص، وهذا بِولاية الفقيه .. هل كان الخميني يترسّم مشروع هرتزل؟ وهل ما قيل عن مشابهةٍ بين الرافضة واليهود؛ يحقّقه هذا الاقتداء؟).
بَسْطُ هذا الموضوع كلّه له من الخَطر ما يحتاج معه إلى إفراده في مقالةٍ مستقلّة، عسى الله أن ييسّر ذلك.
9ـ من أعظم المقاييس عندي للعمل الخالد: هو أنّه العمل الذي لا تستطيع أن تتجاوزه مهما تركتَهُ وعدتَ إليه .. ثمّة تراثٌ يكون له أثرٌ في نفس قارئه في مرحلةٍ من مراحل عمره، لكنّه حين يعود إليه بعد أن يقطع شوطاً من العلم يشعر بأنه قد تجاوزه (هذا المنفلوطيُّ يحبّه المتأدّب ويكرهه الأديب كما قيل) لكنْ هناك أعمالٌ لا تستطيع أن تتجاوزها مهما اكتسبتَ من المعرفة وعدتَ إليها، وعندنا في التراث أمثلةٌ لهذا: المغني لابن قدامة، مقدمة ابن خَلدون، فتح الباري .. أظنّ أن تراثَ ابنِ تيميّة كلّه ـ وليس عنواناً أو عنوانين ـ يصدق عليه هذا المعنى كما لا يصدق على تراث عالمٍ من علماء الإسلام، لا تستطيع أن تتجاوز تراثَ هذا العالِم مهما اكتسبتَ من المعرفة وعدتَ إليه.
10ـ لا يمكن أن يُفهم نصُّ ابن تيميّة بمعزلٍ عن روح عصره، وما احتفَّ به من أحداث، لابدّ من قراءة الخلفية التاريخية لهذا النصّ، والسياقِ المعرفيِّ الذي تكوّن فيه، لن يَفهمَ هذا التراث الهائل من لا يملك قراءةً جيدةً عن عصر المماليك، وما كان في
تلك المرحلة من اشتجارٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ وسياسيٍّ كان له أثرٌ كبيرٌ في تشكّل النصّ التيميّ ..
11ـ في مقدّمات كتب شيخ الإسلام ابن تيميّة المحقّقة، وفي كثير مما كُتب عنه؛ أجدُ أن الأقلام تعيد كلماتٍ بأعيانها قد قيلت فيه، حتى إني سئمتُها لكثرة ما قرأتُها عشرات المرات بل مئاتها: «لم أر مثله ولم ير مثل نفسه» ..
هناك بعضُ الكلمات الرائعة عن هذا الإمام لا تكاد تذكر: لِلْواني والمقريزي وشاه ولي الله الدّهلوي وغولدتسيهر ومحمد كرد علي ونقولا زيادة .. ولعل ما صدّرتُ به من كلمة بروكلمان من هذا القبيل، فهي لا تكاد تذكر مع أنها ذاتُ شأنٍ من مثل هذا المستشرق، ليت أننا نتجاوز هذا الاجترارَ ونتوسّع في قراءاتنا، حتى نقف على مظانَّ عاليةٍ غير مكرورة فيما نكتبه.
«إنّي منذ عهد غير قريب وجدتُ من وقتي فراغاً يتّسع لدراسةٍ دقيقةٍ لكتابَي شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم الحرّاني الدّمشقي الحنبليّ المعروف بابن تيميّة، المتوفى في عام (728) من الهجرة، وهما كتاب منهاج السنّة المحمّدية في نقض كلام الشيعة والقدرية، وكتاب موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، فأخذتُ نفسي بأن أقرأ كلّ يوم عدة أوراق من أحد الكتابين، وأن أقفَ عند نهاية كلِّ مبحث وَقفة فاحصٍ متدبرِّ يحبُّ أن يفيد مما يقرأ، وكنتُ أجد في كلّ يوم من غزارةِ علم الشيخ، وسعةِ اطلاعه على ما أَلَّفَ الناس وما قالوه، وما نُسب إليهم، ومديدِ باعه في الحوار والجدل، ورجاحةِ عقله التي تنخُل الآراء والأقاويل، وتبهرج زائفها، وقوّةِ عارضته في إقامة الحجة؛ ما لا يُقضى منه العَجَب .. ». العلّامة محمد محيي الدّين عبد الحميد
رحِم الله شيخَ الإسلام ابنَ تيميّة ورضيَ عنه، ولقد أراه بلغ في آخر أيّامه في سجن القلعة من الولاية؛ ما لم ينل منه بعضُ الأكابر إلا الفُتات (في مقعد صدق عند مليك مقتدر)
¥