وإذا كان السكاكي قد ارتضى هذا الطريق البعيد فإن الطيبي أحد البلاغيين المتأخرين يسلك سبيلا أقرب في الضبط بقوله: ((اعتبار المبالغة في إثبات أصل المعنى للشيء، إما على طريق الإلحاق أو الإطلاق، والثاني إما إطلاق الملزوم على اللازم، أو عكسه، وما يبحث فيه عن الأول التشبيه، وعن الثاني المجاز، وعن الثالث الكناية، فانحصر الكلام في الثلاثة.
ويذهب كمال الدين البحراني إلى القول: بأن اللفظ إما أن يستعمل في المعنى الموضوع له فهو الحقيقة، أو فيما له علاقة به بحيث ينتقل الذهن من الموضوع له في الجملة - وهو المسمى عندهم باللازم - وهو إما أن تكون علاقته المشابهة أو غيرها، فعلى الأول إن كانت معه قرينة تنافي إرادة المعنى الموضوع له كان استعارة، وإن لم يكن كان تشبيها.
وعلى الثاني أيضا إن كانت معه تلك القرينة المانعة كان مجازا مرسلا، وإن لم تكن كان كناية.
فأصول البيان أربعة، فإذا ضمت الاستعارة إلى المجاز المرسل للاشتراك في المجاز صارت ثلاثة.
ويظهر من هذا أن التشبيه أصل حقيقي من أصول هذا الفن؛ ألا ترى أن له مراتب متفاوتة في الوضوح، وأن فيه من النكت واللطائف البيانية ما لا يحصى.
وما يقال من أن المقصود الأصلي في التشبيهات هو المعاني الوضعية فقط ليس بشيء؛ فإن قولك: "وجه كالبدر" مثلا لا تريد به ما هو مفهومه وضعا، بل تريد أن ذلك الوجه في غاية الحسن ونهاية اللطافة، لكن إرادة هذا لا تنافي إرادة المفهوم الوضعي.
ومهما دار الأمر فإن التشبيه أصل من أصول البيان، ودعامة من دعائمه، ومقصد أصيل من مقاصده، وذلك لأمور أهمها:
أولها: أسبقيته في الوجود على الصور البيانية، فهو أقدم صور البيان؛ إذ هو مبني على ما تلمحه النفس من اشتراك بعض الأشياء في وصف خاص يربط بينها؛ فتعمد إليه النفس بالفطرة حين يسوقها الداعي إليه، والباعث عليه؛ ومن ثمّ كان سرّ شيوعه وذيوعه في سائر الأنواع البشرية واللغات الإنسانية، فهو من الصور البيانية التي لا تختص بجنس ولا لغة؛ كيف لا وهو من الهبات الإنسانية والخصائص الفطرية.
ولقد عرفه العرب الأقدمون منذ لهجت ألسنتهم بفنون القول؛ فكان لأسلوب التشبيه الصدارة من الأساليب التي يستخدمها الفصحاء منهم في كلامهم في كل مكان وزمان، وفي هذا يقول أبو العباس المبرد المتوفى 285هـ في كتابه الكامل: "والتشبيه جارٍ كثير في كلام العرب؛ حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يبعد .. ".
ويقول: "والتشبيه من أكثر كلام الناس" "والتشبيه كثير، وهو باب كأنه لا آخر له".
كما يقول ابن وهب في كتابه نقد النثر: "وأما التشبيه فهو من أشرف كلام العرب، وفيه تكون الفطنة والبراعة عندهم، وكلما كان المشبه (بالكسر) منهم في تشبيه ألطف كان بالشعر أعرف، وكلما كان بالمعنى أسبق كان بالحذق أليق .. ".
ثانيها: تنوع مراتبه في الوضوح والخفاء، فهو أسلوب يظهر فيه التفاوت على نحو ملموس، فليست درجة الوضوح فيه واحدة، وهذا التفاوت مناط البلاغة وعماد البراعة!!.
ثالثها: القول بمجازيته - في رأي ابن الأثير -؛ فيكون دخوله في البيان بطريق الأصالة، لا بطريق التبعية للاستعارة والتطفل عليها.
وحتى على القول المشهور بحقيقيته فإن القيمة الذاتية للتشبيه كصورة بيانية قد تأكدت وتقررت منذ أمد بعيد؛ مما جعل العلوي المتوفى 749هـ في كتابه الطراز يقرر صراحة: "كونه معدودا في علوم البلاغة؛ لما فيه من الدقة واللطافة، ولما يكتسب به اللفظ من الرونق والرشاقة، ولاشتماله على إخراج الخفيّ إلى الجليّ، وإدنائه البعيد من القريب، فأما كونه معدودا في المجاز أو غير معدود فالأمر فيه قريب بعد كونه من أبلغ قواعد البلاغة، وليس يتعلق به كبير فائدة .. "، ذلك أنه باب عظيم من أبواب البلاغة الساحرة، ومسلك رائع للأدباء، منه يلجون في سائر البقاع والأزمنة، وأساس متين للاستعارة التي هي عماد الجمال والكمال في الأساليب!!.
وأسلوب توفرت له هذه اللطائف وتلك المقومات لجدير بأن يكون مقصدا أساسيا من مقاصد البيان، وأصلا عظيما من أصوله!!.
ومما تقدم تدرك أن أصول فنّ البيان عند جمهرة البيانيين أربعة:
منها أصلان ذاتيان: وهما المجاز والكناية، وأصل واحد وسيلة وهو التشبيه، وواحد وهو جزء من أصل وهو الاستعارة.
¥