تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

من: (إذا حكمتُمْ فاعْدِلُوا)

ـ[مهاجر]ــــــــ[16 - 07 - 2009, 06:57 ص]ـ

من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا حكمتُمْ فاعْدِلُوا، وإذا قَتَلتُم فأَحْسِنُوا، فإنَّ الله مُحْسِنٌ يُحِبُّ المحسنين).

إذا حكمتم فاعدلوا: ملائمة بين الحكم والعدل، فالعدل هو وصف الأحكام في معرض المدح، فجنس العدل مما اتفق عقلاء الأمم على مدحه وذم نقيضه، ولكن ذلك الاتفاق الكلي لا يمنع وقوع الاختلاف الجزئي تبعا لتباين أقيسة العقول، فالاتفاق في المعنى الكلي، وهو القدر الذي تشترك في إدراكه كل العقول لا يمنع وقوع النزاع في القدر الفارق وهو خصوص الأحكام في وقائع بعينها، فالمسألة من باب: القدر الكلي المشترك، والقدر الجزئي الفارق، ووقوع النزاع بين العقول البشرية أمر يشهد له الشرع في نحو قوله تعالى: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)، والعقل: إذ تباين الأعصار والأمصار مظنة الاختلاف في الأمزجة، والحس: وحال البشر في زماننا خير شاهد على ذلك فما وقع التعدي على الأديان والأبدان إلا فرعا عن تباين العقول في قبول أو رد حجج الخصوم، فسنة التدافع الحسي فرع عن سنة التدافع العقلي، وفي التنزيل: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، فللرحمة الشرعية خلقهم، ولا يكون ذلك إلا بالسير على منهاج النبوة، أو للاختلاف الكوني خلقهم، فالخلاف شر شرعا، ولكنه واقع كونا لتعمل السنة الربانية عملها إظهارا لحكمة مجريها، عز وجل، أو لكليهما خلق العباد فللرحمة خلقوا بإرادة النجاة لهم شرعا، فوقع الخلاف بإرادة التدافع كونا، فالإرادة الشرعية متعلق الأمر الشرعي، والإرادة الكونية متعلق الأمر الكوني، فلا بد أن يقع النزاع كونا فإن لم يضبط بضابط الشرع، وقع التعدي على الأديان والأبدان والأعراض ........... إلخ، وهذا ما امتاز به قتال أتباع الأنبياء عن قتال خصومهم من منكري النبوات، وتأمل حال أبناء الأمم التي فتح الإسلام أرضها بسيف الرحمة، وحال أمة الإسلام لما استبيحت بمقتضى السنة الربانية المطردة: (إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ)، فأعمل فيهم سيف الاستئصال إذ لا نبوة تردع ولا شرع يحكم، ليكون الحكم عادلا، كما ورد في صدر هذا الحديث الجامع.

الشاهد أن ذلك التباين العقلي واقع لا محالة، فإنكاره مكابرة بل سفسطة إذ هو من البدهيات التي يظن بجاحدها ضعف العقل أو ذهابه، فلا يستقل العقل بإدراك المصالح الجزئية، وإن غرزت فيه قوة إدراك المصالح الكلية فهو يدرك حسن الحسن وقبح القبيح إجمالا، ولكنه لا يدرك الحسن من القبيح في كل صورة، لا سيما الصور المشتبهات، التي يظهر له فيها وجه مصلحة متوهمة، فليس القبح فيها ظاهرا، إذ البشر بمعزل عن إدراك المآلات تفصيلا، فلا يعلم الغيب إلا الله، عز وجل، وكثير من المنهيات لا يظهر فسادها عاجلا ليزجر مرتكبها ابتداء، بل اقتضت سنة الإملاء والاستدراج الرباني ألا تظهر عواقبها إلا بعد زمان من وقوعها، لتظهر حكمة الابتلاء، فيعلم الممتثل الذي سلم لأمر الشرع فرعا عن إقرار بعجز العقل عن إدراك المآلات، من التارك لجحود أو عصيان، فلا يرى إلا لذته الآنية ومصلحته الحالية، وإن كانت متوهمة يعقبها من المفاسد ما يزيل أثر أي لذة سابقة، وفي حديث أنس، رضي الله عنه، مرفوعا: (يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ الْكُفَّارِ فَيُقَالُ اغْمِسُوهُ فِي النَّارِ غَمْسَةً فَيُغْمَسُ فِيهَا ثُمَّ يُقَالُ لَهُ أَيْ فُلَانُ هَلْ أَصَابَكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لَا مَا أَصَابَنِي نَعِيمٌ قَطُّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الْمُؤْمِنِينَ ضُرًّا وَبَلَاءً فَيُقَالُ اغْمِسُوهُ غَمْسَةً فِي الْجَنَّةِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير