تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[من سورة القدر]

ـ[مهاجر]ــــــــ[16 - 09 - 2009, 08:37 ص]ـ

ومن قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)

فذلك جار على حد ما تقدم من التعظيم، بإسناد الفعل إلى ضمير: "نا" الدال على الفاعلين، والإنزال جملي من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة، أو هو بمعنى ابتداء النزول، عند من يقول بأن ابتداء نزول القرآن كان في ليلة القدر، لا أنه نزل فيها جملة إلى بيت العزة، فيكون من إطلاق الفعل وإرادة مبادئه، والتكنية عنه بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره جار مجرى: عود الضمير على غير مذكور، لنباهة ذكره فلا يفتقر إلى التصريح، فهو حاضر في القلوب والعقول بصورته العلمية كما هو حاضر في أعمال الجوارح بصورته العملية عند من صيره حاكما على كل أمره، مهيمنا على كل شأنه، فمن خبره يتعلم ولحكمه يصبر ويمتثل، فهو الهادي إلى العلم النافع الذي تعمر به القلوب وهو الهادي إلى العمل الصالح الذي تعمر به الجوارح، فبه صلاح الباطن العلمي والظاهر العملي، وما كان هذا شأنه في الهداية والبيان، فحري به ألا يفتقر إلى تقدم ذكر لفظي فهو مذكور ذهني على الدوام.

والقدر من: الشرف، فهي ليلة عظيمة الشأن، أو هو من القدر الذي يفرق في تلك الليلة، أو هو من الضيق إذ تضيق الأرض بما يتنزل من الملائكة، ولا مانع من حمل اللفظ على كل تلك المعاني الشريفات، فهو مما يثري السياق بتوارد المعاني على اللفظ الواحد على حد الاشتراك، لا سيما عند من يجوز تعدد دلالة المشترك فيعم كل معانيه، وإن كان الأصل عند جمهور الأصوليين ألا يعم المشترك كل معانيه بوضع واحد فهو دال عليها على حد البدل لا الشمول الجامع.

وقد صار اللفظ علما بالغلبة، على تلك الليلة بعينها فـ: "أل": لتعريف الجنس الذي ينزل منزلة العهد لغلبة هذا الاسم على تلك الليلة بعينها، على حد: "الكتاب" فهو علم بالغلبة على كتاب سيبويه رحمه الله، وعلى حد: "المدينة" فهو علم على المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

ثم جاء الاستفهام في معرض التفخيم لشأنها:

وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ

وعقب بالبيان الجزئي إمعانا في التشويق بالتدرج في ذكر فضائل تلك الليلة بخلاف ما لو ذكرت دفعة واحدة:

فـ: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ): وقد أظهر الاسم ثلاث مرات: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، وحقه الإضمار في الموضعين الأخيرين، ولكنه أظهر مئنة من شرف تلك الليلة فحسن إبراز اللفظ الدال عليها وفي السياق من فنون البديع تناسب الأطراف في: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) على حد قوله تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ)، والمراد بالخيرية: خيرية العبادة، فيكون في السياق إيجاز بالحذف على تأويل: عبادة ليلة القدر خير من عبادة ألف شهر، ومن ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.

ثم جاء البيان الثاني:

تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ:

تنزل الملائكة: وفي إيراد المضارع استحضار للصورة إمعانا في بيان شرف تلك الليلة، فضلا عن دلالته على التجدد فإن ذلك أمر يتكرر كل عام، والفعل قد جاء على وزن: "تفعل" الدال على الكثرة، والكثرة هنا: كثرة آحاد نوع الفعل، فالتنزل في تلك الليلة بالرحمات والبركات: يتكرر حتى تضيق الأرض بكثرة ما نزل من الملائكة إليها على ما تقدم من وصف حمل القدر على الضيق. والمطرد من كلام أهل البلاغة في هذا الموضع قولهم: زيادة المبنى مئنة من زيادة المعنى.

وقد حسن الفصل في آيات: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، و: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ)، و: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)، لكونها قد نزلت منزلة البيان لما تقدمها من إجمال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)، والصلة بين المجمل ومبينه وثيقة، فيكون ذلك على حد الفصل لشبه كمال الاتصال بين الطرفين.

ثم عطف الروح الأمين عليه السلام على الملائكة عطف خاص على عام تنويها بذكره ومئنة من شرفه وعظم قدره على حد قوله تعالى: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ).

ثم جاء البيان الثالث على القول بخبرية الجملة:

سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ:

فـ: سلام هي: فتنكير المسند: "سلام" للتعظيم وقد قدم وحقه التأخير إرادة القصر والتوكيد وهو قصر ادعائي على تقدير: ما هي إلا سلام. كما ذكر ذلك صاحب "التحرير والتنوير" رحمه الله، ووجه كونه ادعائيا عدم الاعتداد بما يقع فيها من الشرور من الكفار والعصاة، فلغلبة السلامة على تلك الليلة صح الإخبار عنها بما يفيد الحصر تغليبا، فغالب أحوال أهل الأرض في تلك الليلة، لا سيما أهل الإسلام: السلامة.

وقال بعض أهل العلم هي إنشائية المعنى على تقدير: اجعلوها سلاماً بينكم، أي لا نزاع ولا خصام.

والله أعلى وأعلم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير