[البيان البلاغي عند العرب معناه ... وأطواره]
ـ[عمر خطاب]ــــــــ[18 - 03 - 2009, 04:50 م]ـ
الحمد لله الرحيم الرحمن علّم القرآن، خلق الإنسان علمه البيان، والصلاة والسلام على رسول الله أفصح من نطق وأبان وبعد:
فقد وردت كلمة "البيان" في المعاجم العربية بمعنى: ما تبين به الشيء من الدلالة وغيرها؛ تقول بان الشيء بيانا: اتّضح، فهو بيّن، والجمع: أبْيناء، والبيان: الفصاحة واللَّسَن، وكلام بيّن: فصيح، وفلان أبْين من فلان، أفصح وأوضح كلاماً منه، والبيان: الإفصاح مع ذكاء، والبيان إظهار المقصود بأدلّ لفظ، وهو من الفهم وذكاء القلب مع اللَّسَن، وأصله الكشف والظهور.
فمادة البيان تدور حول معنى: الدلالة، والفصاحة، والوضوح، والكشف، والظهور، وقد استمرت هذه المعاني مستقرة حتى ظهرت باكورة الدراسات البيانية المتخصصة متمثلة في كتاب (البديع) لمؤلفه الأمير الشاعر ابن المعتز المتوفى سنة 296هـ؛ استجابة لدعوة الجاحظ المتوفى سنة 255هـ القائمة على تحقيق التأنق في رسم الصورة الأدبية، والكشف عن الوسائل التي تزدان بها تلك الصورة، وتزداد بها وضوحاً وروعة، وكتاباه: (البيان والتبيين)، (الحيوان) يمثلان أسلوبه ومنهجه في هذه الدعوة إلى النهج البياني، وبهما اعتبره البعض مؤسس البيان العربي المختلفة ()، بل إن لكل صناعة ألفاظها قد حصلت لأهلها بعد امتحان سواها، فلم تلزق بصناعتهم إلا بعد أن كانت مُشَاكِلاً بينها وبين تلك الصناعة.
وقبيح بالمتكلم أن يفتقر إلى ألفاظ المتكلمين في خطبة أو رسالة، أو مخاطبة العوام والتجار، أو في مخاطبة أهله وعبده، أو في حديثه إذا تحدّث، أو خبره إذا أخبر، وكذلك من الخطأ أن يجلب ألفاظ الأعراب، وألفاظ العوام وهو في صناعة الكلام داخل، ولكل مقام مقال، ولكل صناعة شكل ().
وعلى هذا فالبيان عند الجاحظ هو: الدلالة الظاهرة على المعنى الخفي، وهو اسم جامع لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير؛ حتى يُفضَى السامع إلى حقيقته، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع؛ إنما هو: الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام، وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع.
ثم إن أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء:
(1) اللفظ، (2) الإشارة، (3) العْقَدْ، (4) الخطّ، (5) الحال الدّالة التي تُسمى: نِصبة (بكسر النون).
وهكذا ترى أن المعنى اللغوي للبيان هو الذي سيطر على فكر الجاحظ، واستبدّ بخياله، وينتهي القرن الثالث الهجري الذي برز فيه الجاحظ، ويأتي القرن الرابع ليخرج أبو الحسين إسحاق بن وهب الكاتب كتابه: (البرهان في وجوه البيان) مقتفياً طريق الجاحظ في البيان والتبيين ناقداً إيَّاه، من حيث إنه وجد فيه أخباراً منتخلة، ولم يأت فيه بوصف البيان، ولا أتى على أقسامه في هذا اللسان، حتى بات هذا الكتاب غير مستحق لهذا الاسم الذي نسب إليه () والبيان عنده على أربعة أوجه:
(1) فمنه بيان الأشياء بذواتها، وإن لم تُبيّن بلغاتها، وهو بيان الاعتبار.
(2) ومنه البيان الذي يحصل في القلب عند إهمال الفكرة واللُّبّ، وهو بيان الاعتقاد.
(3) ومنه البيان: الذي هو نطق باللسان وهو: بيان العبارة.
(4) ومنه البيان بالكتاب: الذي يبلغ من بعُد، أو غاب ().
وإنك حين تتأمل في هذه الأوجه تجدها قريبة من صنوف البيان التي قالها من قبل؛ إذ بيان الاعتبار، والاعتقاد عند ابن وهب هما معاً: بيان ((النّصبة)) عند الجاحظ، وبيان العبارة هو بيان ((اللفظ)) عند الجاحظ، وبيان الكتاب هو: بيان ((الخط)) عند الجاحظ، فمحاولة ابن وهب إنما هي ترديد لما صنعه الجاحظ، فلا يدع أن يستمر البيان في نطاق معانيه اللغوية، ونجد عالماً آخر هو الرماني في كتابه: (النكت في إعجاز القرآن) يشرح البيان: بأنه الإحضار لما يظهر به تمييز الشيء من غيره، وأقسامه أربعة: كلام، وحال، وإشارة، وعلامة ().
¥