تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولعل كلام الإمام هذا هو الذي أوحى إلى السكاكي بأن يقول: "إن علم البيان شعبة من علم المعاني …الخ، على أن السكاكي لم يسلم من اعتراضات بهاء الدين السبكي المتوفى 773هـ فيقول: "ثم لا نسلم أن علم البيان يتوقف على معرفة علم المعاني؛ لجواز أن يعلم الإنسان حقيقة التشبيه، والكناية، والاستعارة وغير ذلك من علم البيان ولا يعلم تطبيق الكلام على مقتضى الحال، فليس علم المعاني جزءا من البيان ولا لازما له، وأن تطبيق الكلام على مقتضى الحال كالمادة، وهذه الطرق كالصورة، والمادة ليست جزءا للصورة .. ".

وكلام البهاء هذا يصور مدى الفصل بين العلمين عند المتأخرين، وهذا مسلك جرّ على البلاغة انفصالا بين مسائلها المتشابكة، وقضاياها المترابطة؛ فلا مندوحة لقبوله! إذ المطابقة واجبة في كل ألوان البلاغة وفنونها.

ومن المشهور عند أصحاب الاتجاه السكاكي في البلاغة أنك إذا نظرت إلى أسلوب من جهة وجود المطابقة أو عدمها فأنت تسلك طريق علم المعاني، ولو نظرت هذه النظرة إلى الألوان البيانية كنت صادرا في بحثك عن هذا العلم، وكذلك لو نظرت إلى المحسنات البديعية؛ فإن مردّ الحسن الثابت للبديع إلى ارتباط هذا الحسن باقتضاء المعنى له، واستدعاء المقام له؛ فحيث يقتضي المعنى يكون اللون الذي يناسبه؛ ومن ثم شاع بين علماء البلاغة أن المحسن البديعي إذا اقتضاه المقام صار من علم المعاني؛ لمراعاة المطابقة.

وإذن فالمطابقة تتحقق في الألوان البيانية، والأصباغ البديعية إذا اعتبرها الباحث في نظرته، ولا أعتقد أن باحثا ما لا يملك أن يتجاهل المطابقة؛ فإنه بدونها لن يصل إلى التعرف على بلاغة الأساليب.

وحسنا ذهب بعض النقاد المعاصرين إلى نقد من يقصر المطابقة على علم المعاني فقال: "وهنا يتبين الخطأ في قصر تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره على مسائل علم المعاني؛ فإن الحق أن ذلك شامل لفنون البلاغة جميعا .. ويقول: "والواقع أن دائرة المطابقة لمقتضى الحال أوسع من هذه الدائرة بكثير، ولا تقف عند تلك المباحث الثمانية المشهورة التي ذكروها في علم المعاني؛ فإن مجالات هذه المطابقة كثيرة .. ".

ولا شك أن هذا الاتجاه لتعميم المطابقة الشاملة في فنون البلاغة الثلاثة هو المنهج الأقوم الذي أرساه من قبل الأقدمون من علماء النقد والبلاغة، وما أحوج الدرس البلاغي المعاصر إليه؟!!

وبعد فإن مكان البيان من البلاغة يتوقف على مدى وفاء اللون البياني بالمقام الذي سيق له، وما يكتنف الصور البيانية من قيمة ذاتية تخلع على الكلام حسنا وجمالا، وتكسبه روعة وجلالا، وتشيع الضياء والرونق في كل نظم تحتويه، وتمنحه الصحة والقوة بكل ما تمثله من قيمة ذاتية، وتضمن له الحيوية المتجددة فلا يسقط على مر العصور ..

وعلى الله قصد السبيل.

بقلم الدكتور عبد الحميد العبيسي (رحمه الله)، أستاذ البلاغة والنقد في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر بالقاهرة.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير