وبعض البيانيين يعتبر مباحث البيان أربعة: "التشبيه، وليس من أقسام اللفظ، والحقيقة والمجاز اللفظيان، والكناية، والثلاثة من أقسام اللفظ".
وإنما جعلت الحقيقة ضمن مباحثه مع أنها ليست من مقاصده؛ لاتضاح مقابلها وهو: المجاز شدة الاتضاح؛ لأن الشيء تكمل معرفته بمعرفة مقابله، أو أنها لما كانت كالأصل للمجاز؛ إذ الاستعمال في غير ما وضع له فرع الاستعمال فيما وضع له غالبا جرت العادة بالبحث عنها في هذا الفن.
وأيا ما كان الأمر فإنه لا مناص من البحث في التشبيه والحقيقة، والمجاز والكناية؛ وصولا إلى الكشف عن مسائل البيان وصوره ..
(ب) وأما مكان البيان من البلاغة فتكمن في وجود المطابقة التي هي: عماد البلاغة؛ إذ إن هذه الألوان البيانية تستدعيها المقامات، وتتطلبها الأحوال؛ فالإفصاح في موضع الإفصاح، والكناية في موضع الكناية، والاستعارة في موضع الاستعارة، والمجاز في موضع المجاز؛ فهذه الألوان تمثل وجوها تتحقق بها المطابقة؛ فيبدو الكلام بليغا بوجود تلك المطابقة.
وإذا كان السكاكي قد فصل علم المعاني عن البيان لملاحظة أدركها في ثمرة كل من العلمين؛ فإن الغرض من علم المعاني: هو الاحتراز عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما يقتضي الحال ذكره، كما أن موضوعه: البحث في اللفظ العربي من هذه الجهة التي توصل إلى تلك الغاية.
فعلم المعاني عنده: هو معرفة خواص تراكيب الكلام، أما علم البيان فهو معرفة صياغات المعاني؛ ليتوصل بها إلى توفية مقامات الكلام حقها؛ وذلك احترازا عن التعقيد المعنوي، فإن علم البيان عند السكاكي يتوقف على علم المعاني؛ ذلك أن علم البيان: هو معرفة إيراد الكلام بطرق مختلفة في الوضوح بعد مراعاة المطابقة لمقتضى الحال، ومعنى ذلك أن الأديب شاعرا أو ناثرا إذا أراد أن يصوغ معنى، فيعمد إلى تشبيه أو مجاز أو كناية، فهو حينئذ يكون قد أخذ بجزء من علم البيان، فإذا راعى أن هذا الأداء يطابق مقتضى الحال كان آخذا بالعلم كله؛ وعلى ذلك فالنظر في هذه الصور البيانية: (التشبيه، المجاز، الكناية) من زاويتين:
أولاهما: أنها صور يعبر بها عن المعاني.
ثانيهما: أنها تطابق أو لا تطابق.
والنظرة الثانية هي: موضوع علم المعاني، والنظرتان معا هما: موضوع علم البيان.
ومن هنا قالوا: "إن علم المعاني من البيان بمنزلة المفرد من المركب، لأن رعاية المطابقة لمقتضى الحال التي هي مرجع علم المعاني معتبرة في علم البيان مع زيادة شيء آخر وهو: إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، ولما كان المفرد مقدما طبعا على المركب كان المركب متأخرا وضعا عن المفرد، ولهذا وضع علم البيان بعد علم المعاني"، والسكاكي يقرر كذلك: "أنه لما كان علم البيان شعبة من علم المعاني لا تنفصل عنه إلا بزيادة اعتبار جرى منه مجرى المركب من المفرد لا جرم آثرنا تأخيره".
وتعبير السكاكي بأن: علم البيان شعبة من علم المعاني يوضح مدى الصلة القوية بين العلمين.
وهذا المعنى نراه جليا واضحا عند الإمام عبد القاهر الجرجاني؛ فيقول في معرض كلامه عن الغرض الذي ابتدأه وهو: التوصل إلى بيان أمر المعاني كيف تتفق وتختلف؟.
"وأول ذلك وأولاه وأحقه بأن يستوفيه النظر ويتقصاه القول على التشبيه، والتمثيل، والاستعارة؛ فإن هذه أصول كثيرة كان جل محاسن الكلام - إن لم نقل كلها - متفرعة عنها، وراجعة إليها، وكأنها أقطاب تدور عليها المعاني في متصرفاتها، وأقطار تحيط بها من جهاتها .. ".
كما ترى الإمام في كلامه عن النظم، وإعجاز القرآن الكريم يقول: "إن الأمر يقتضي دخول الاستعارة ونظائرها فيما هو به معجز؛ وذلك لأن هذه المعاني التي هي: الاستعارة، والكناية، والتمثيل وسائر ضروب المجاز من بعدها من مقتضيات النظم، وعنها يحدث، وبها يكون .. ".
¥