"والمعنى: لا تحصل مني عبادتي ما تعبدون في أزمنة في المستقبل تحقيقاً لأن المضارع يحتمل الحال والاستقبال فإذا دخل عليه (لا) النافية أفادت انتفاءه في أزمنة المستقبل ............... ولذلك جاء في جانب نفي عبادتهم لله بنفي اسم الفاعل الذي هو حقيقة في الحال بقوله: {ولا أنتم عابدون}، أي ما أنتم بمغيِّرين إشراككم الآن لأنهم عرضوا عليه أن يبتدِئوا هُم فيعبدوا الرب الذي يعبده النبي صلى الله عليه وسلم سنة. وبهذا تعلم وجه المخالفة بين نظم الجملتين في أسلوب الاستعمال البليغ". اهـ
فموقف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثابت لا يتزحزح، وموقفهم كموقف أي مبطل لا قدسية ولا ثابت عنده فيتلون بتلون مصالحه، على طريقة: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ)
ثم كرر ذلك توكيدا: "وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ"
ثم جاء النص باختصاص كلٍ بدينه، فلكل مقالته في الإلهيات، والحق واحد لا يتعدد، وهو ما جاءت به النبوات.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وكذلك قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. فإن هذه الكلمة كقوله: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. وهي كلمة توجب براءته من عملهم وبراءتهم من عمله فإن حرف اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص فقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. يدل على أنكم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه وأنا مختص بديني لا تشركوني فيه كما قال: {لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} ولهذا قال النبي في {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}: هي براءة من الشرك وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين ولا أهل الكتاب كما يظنه بعض الملحدين ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين وجعلوها منسوخة بل فيها براءته من دينهم وبراءتهم من دينه وأنه لا تضره أعمالهم ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم.
وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ ولم يرض الرسول بدين المشركين ولا أهل الكتاب طرفة عين قط ومن زعم أنه رضي بدين الكفار واحتج بقوله تعالى: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين}. فظن هذا الملحد أن قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} معناه أنه رضي بدين الكفار ثم قال هذه الآية منسوخة فيكون قد رضي بدين الكفار وهذا من أبين الكذب والافتراء على محمد فإنه لم يرض قط إلا بدين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه ما رضي قط بدين الكفار لا من المشركين ولا من أهل الكتاب.
وقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} لا يدل على رضاه بدينهم بل ولا على إقرارهم عليه بل يدل على براءته من دينهم ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذه السورة براءة من الشرك".
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. وكذلك قوله تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}. وقد يظن بعض الناس أيضا أن قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} الآية أني لا آمر بالقتال ولا أنهي عنه ولا أتعرض له بنفي ولا إثبات وإنما فيها أن دينكم لكم أنتم مختصون به وأنا بريء منه وديني لي وأنا مختص به وأنتم برآء منه.
وهذا أمر محكم لا يمكن نسخه بحال كما قال تعالى عن الخليل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} ". اهـ
"الجواب الصحيح"، (2/ 36، 37).
والله أعلى وأعلم.
ـ[محمود سعيد أحمد]ــــــــ[09 - 05 - 2009, 04:21 م]ـ
جزاك الله خيراً أيها الأخ الكريم على تلك الفائدة التي قدمتها من خلال سورة الكافرون.
ـ[مهاجر]ــــــــ[10 - 05 - 2009, 06:18 ص]ـ
وجزاك خيرا أخي محمود ونفعك ونفع بك وأيدك بالعلم النافع والعمل الصالح.