تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإما على سبيل الإنشاء على تأويل: لا تبدلوا كلمات الله: فيكون المراد كلماته الشرعيات الحاكمات، فهي من قدره الشرعي الذي قد يتخلف، على حد قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، فقضى شرعا، وأخبر كونا: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، إذ خوطبوا بالإيمان على حد التكليف، ولم يشأ الله، عز وجل، ذلك منهم لحكمة تربو على مصلحة إيمانهم على حد التقدير. وليس ذلك بقادح في كمال ربوبيته، إذ ما خرجوا عن مقتضى أمره الشرعي إلا بمقتضى أمره الكوني، فالخلق كلهم خاضعون لإرادته الكونية على جهة الاضطرار، والمصطفون منهم هم الذين نالوا شرف الخضعان لإرادته الشرعية على جهة الاختيار.

ونظير ذلك نحو قوله تعالى: (لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ)، فلا تبديل لكلماته كونا، أو: لا تبدلوا كلماته على جهة التكليف الشرعي.

وقوله تعالى: (لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ): فلا تبديل لخلقه الكوني، أو لا تبدلوا خلقه على سبيل الإحداث في الدين، فتكونوا قد خالفتهم أمر الرحمن إلى أمر الشيطان: (وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)، فنص على ما كان شائعا آنذاك من تغيير خلق الأنعام على جهة الديانة ابتداعا وإحداثا في دين الخليل عليه السلام ما أنزل الله، عز وجل، به من سلطان، نص عليه على سبيل الخصوص إذ هو أولى ما ينهى عنه آنذاك باعتبار الحاجة إلى إبطاله فلا مفهوم يخصصه ليقتصر على تلك الصورة دون ما عداها من صور تغيير الخلق المنهي عنها شرعا، بل النهي عام لكلها، وقد أكد ذلك بالنص على العموم، بعد الخصوص في معرض الذم الذي يستفاد منه النهي بداهة إذ أمر الشيطان أولى الأوامر بالمخالفة، بالنص على عموم: (وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ).

ولا مانع من الجمع بين الدلالتين: الإخبارية والإنشائية على قول من يجوز دلالة اللفظ على الحقيقة والمجاز في آن واحد، فهو كدلالة المشترك اللفظي المجمل على معنييه، وإن تباينت حقيقتهما فلا يجمعهما إلا اللفظ فقط، فكذلك الحال هما: إذ اللفظ دال على الخبر دلالة ظاهرة، دال على الإنشاء دلالة خفية، فحقيقتهما متباينة، ولا يمتنع مع ذلك حمل اللفظ على كليهما لعدم تعارضهما، فإعمال كلا المعنيين أولى من إهمال أحدهما، إذ ذلك الإعمال مما يثري السياق.

وقوله تعالى: (وهو السميع العليم): تذييل معنوي يناسب السياق، إذ وصفه بالعلم على سبيل المبالغة مئنة من نفاذ كلماته الكونيات وإحكام كلماته الشرعية، فالخلق والتشريع لا يكون إلا عن علم سابق محيط، على حد قوله تعالى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، فإذا كان هو العالم بدقائقهم فهو الخبير، وخفاياهم فهو اللطيف، فهو الخالق لهم بداهة، فرعا عن ذلك العلم الأزلي المحيط الذي به كان الإيجاد والتكوين، وإذا ثبت له كمال أوصاف الربوبية من هذا الوجه، اقتضى ذلك إفراده بكمال الألوهية شرعا خاصا في الأفراد وعاما في الجماعات.

والسمع من لوازم العلم المحيط، فهو من صفات الكمال المطلق التي تدل على العلم لزوما فمن له كمال السمع المحيط: له كمال العلم المحيط، ويدل عليها العلم لزوما: فمن له كمال العلم المحيط: له كمال السمع المحيط، إذ لا يتصور علم بلا سمع، أو سمع بلا علم، فتلك من الكمالات الذاتية المعنوية التي يدركها العقل، وقد جاء بها الخبر ابتداء، فتواطأت عليها الدلالتان:

الخبرية وهي العمدة في الإلهيات إذ العقل عنها بمعزل فلا يدركها إلا على سبيل الإجمال الذي تبينه أخبار النبوات.

والعقلية: إذ العقل يدرك بداهة وجوب وصف الباري، عز وجل، بأوصاف الكمال المطلق، والعلم والسمع منها، فضلا عن كونها كمالا مطلقا في المخلوق، فتجب في حق الخالق، عز وجل، بعد ورودها في الخبر، من باب أولى، وهو خالقها في عباده على جهة الكمال، ومبدع الكمال أولى بالاتصاف به كما قد علم بداهة.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير