ومن أهمِّ الوسائل الَّتي يقترحها الباحثون لدراسة النحو على أساس المعنى: الربط بينه وبين علم المعاني، بل إنَّ الأستاذ الدكتور تمَّام حسَّان يستحسن " أن يكون علم المعاني قمَّة الدراسات النحويَّة أو فلسفتها إن صحَّ التعبير "، فبهذه الطريقة يصبح للنحو (مضمون)، ويتجاوز الضعف الَّذي لحقه بسبب فصله عن المعنى، وهو يتنبَّأ بأنَّ هذا الجمع والمزج بين معطيات علم النحو ومعطيات علم المعاني سوف يوصل إلى " تنظيم دراسة الفصحى على أساسٍ جديدٍ لم يخطر ببال سيبويه ولا ببال عبد القاهر ".
إنَّ علوم العربيَّة يجب أن تتكامل وتجتمع لتقوم بوظائفها الحيويَّة كأجزاء مؤثِّرة وفعَّالة في البناء الكلِّيِّ، وخاصَّةً في دراسة النصوص؛ فالنصُّ لا يُكتشَف بوسائل متشرذمة، والنظرة الضيِّقة إليه من منطلق تخصُّصٍ واحد تُضيعه، وتفقده فعاليَّته وروحه، فلا يبقى منه شيء.
هذا، و يؤكِّد النقَّاد على أهمِّيَّة اللغويَّات الهائلة في دراسة الأدب، وعلى صلتها الوثيقة بالدراسات الأسلوبيَّة للنصوص؛ فالنحو من أهمِّ أدوات الفهم الأدبيّ، وهو مدخلٌ صحيحٌ لفهم النصوص وتفسيرها، وإذا كانت كلّ دراسة لغويَّة لها غايةٌ واحدةٌ هي فهم النصّ وتجليته وكشفه، " وكلّ عمل يجعل النصَّ نفسه مجالاً له عملٌ مثمر " فهذا يعني شيئًا واحدًا هو أهمِّيَّة العودة بالدرس النحويّ إلى النصوص اللغويَّة الحيَّة والعمل من خلالها على شرح المعنى النحويِّ الدلاليِّ فيها، فمن شأن هذا أن يعود بأعظم النتائج على النحو والأدب معًا، وعلى متعلِّمي العربيَّة والراغبين فيها.
الشِّعر من الأنواع الأدبيَّة المتميِّزة؛ لما له من نظامٍ لغويٍّ خاصٍّ داخل النظام اللغويِّ العامّ، والشاعر في سبيل وصوله إلى تجربةٍ خاصَّةٍ مع اللغة تحمل بصْمَتَه فإنَّه يقوم بعددٍ من التجاوزات - أو العدول - عن المستوى المعياريّ – أو النموذجيّ – للاستعمال اللغويّ.
والشعراء إنَّما يرتكبون هذه التجاوزات والمخالفات لأنَّهم يستخدمون القواعد النحويَّة بوصفها نقطة انطلاق، ينطلقون منها يوتِّرونها ويحاولون عن طريقها الحصول على أكثر الطرق فاعليَّةً وتأثيرًا لقول ما يريدون.
وما برح النحاة من مبدإ التصنيف في هذا العلم يردِّدون ما يُشعِر باختلاف لغة الشعر في بعض مناحيها عن اللغة المألوفة في الكلام، كقول سيبويه: " اعلم أنَّه يجوز في الشِّعر ما لا يجوز في الكلام "، وقول ابن جنِّي: " والشِّعر موضع اضطرار وموقف اعتذار، وكثيرًا ما يُحرَّف فيه الكلم عن أبنيته، وتُحال فيه المُثُل عن أوضاع صيغها لأجله "، وقول ابن عصفور: " اعلم أنَّ الشِّعر لمَّا كان موزونًا يخرجه الزيادة فيه والنقص منه عن صحَّة الوزن ويحيله عن طريق الشِّعر، أجازت العرب فيه ما لا يجوز في الكلام، اضطرُّوا إلى ذلك أو لم يضطرُّوا إليه؛ لأنَّه موضعٌ أُلِفتْ فيه الضرائر ".
في الشِّعر إذن خروجٌ عن اللغة المألوفة في حياة المتكلِّمين، وفيه من الظواهر النحويَّة ما هو موافقٌ للقواعد وما هو مخالفٌ لها، وتبدو المخالفات فيه وكأنَّها تنبيهٌ مستمرٌّ متَّصلٌ للأذهان لاستكشاف دور الاستعمال المأنوس الَّذي يُفقِد إلفُه والاعتيادُ عليه الإحساسَ به والتنبُّهَ له، واستكشاف الظواهر وتفسيرها وظيفة النحو، فتحليل العمل الفنِّيّ في الدراسات الوصفيَّة والأسلوبيَّة، والملاحظة، والتصنيف، وتحديد المميِّزات، كلُّ هذا من النحو غير بعيد.
وأوَّل ما يهمُّ علم النحو في دراساته هو ذلك الارتباط بين المفردات والنظام النحويّ، ومراعاة التفاعل بين الوظيفة النحويَّة والمفرد الَّذي يشغلها هو ما سُمِّي في الحديث (المعنى النحويّ الدلاليّ)، وعبَّر عنه – قديمًا – عبد القاهر الجرجاني ب (النظم)، وأفاض في شرحه وبيان جوانبه، ومن عباراته في ذلك قوله: " والألفاظ لا تفيد حتَّى تؤلَّف ضربًا خاصًّا من التأليف، ويُعمَد بها إلى وجهٍ دون وجه من التركيب والترتيب "، وقوله: " واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه الشكُّ أنْ لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يُعلَّق بعضها ببعض ويُبنى بعضها على بعض وتُجعل هذه بسبب من تلك، هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحدٍ من الناس "، وقوله: " ... لا يُتصوَّر أن تعرف للفظ موضعًا من غير أن تعرف معناه، ولا أن تتوخَّى في الألفاظ من حيث هي ألفاظ ترتيبًا ونظما، وأنَّك تتوخَّى الترتيب في المعاني وتُعمل الفكر هناك، فإذا تمَّ لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقفوت بها آثارها، وأنَّك إذا فرغت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تستأنف فكرًا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتَّب لك بحكم أنها خدمٌ للمعاني وتابعةٌ لها ولاحقةٌ بها، وأنَّ العلم بمواقع المعاني في النفس علمٌ بمواقع الألفاظ الدالَّة عليها في النطق ".
وما زالت نظريَّة عبد القاهر تجد أصداء لها حتَّى في غير النقد العربيّ، فالناقد الفرنسيّ فاليري يؤكِّد على الشكل بمعنى الترتيب، أي على الكلمات وقد اتَّخذت لها ترتيبًا معيَّنًا، ويقول الناقد الإنجليزي أ. أ. ريتشاردز: " إنَّ كمِّيَّة الألفاظ الَّتي في متناول الشاعر لا تحدِّد منزلته بين الشعراء، وإنَّما الَّذي يحدِّد مكانته الطريقة الَّتي يستخدم بها هذه الألفاظ، فالمهمّ هو مدى إحساس الشاعر بطاقة الألفاظ على تعديل بعضها البعض، وعلى تجميع تأثيراتها المنفصلة في العقل واتِّخاذها موضعها المناسب في الاستجابة ككلّ ".
كلُّ هذا غايته واحدة، وهي بيان أنَّ المعنى مؤسَّسٌ على أمرين: الاختيار الدقيق للكلمات، ورصفها بعنايةٍ في نظامها النحويّ، ولهذا فإنَّ وصف النظام التركيبيّ للشعر أو تحديد البناء النحويّ للجمل فيه لا يمكن أن يتمَّ على نحوٍ مفيد دون أن يرتبط بما تؤدِّيه التراكيب والجمل من دلالة؛ لأنَّ عزل النظام النحويّ عن الشِّعر لا معنى له، فالتعاون الوثيق بين الشكل والمعنى هو " سرُّ الأسلوب الأكبر في الشِّعر "، وإظهار صور هذا التعاون وفوائده هو مقصد الدراسات النحويّة الدلاليّة.
صالح الشاعر