تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والفرق بين الرتبة المحفوظة والرتبة غير المحفوظة هو عينه الفرق بين الواجب والجائز في النحو؛ فالتقديم في الرتبة المحفوظة حكمٌ تركيبيٌّ نحويٌّ صِرف لا مجال فيه لاختيار المتكلِّم، فهو إمَّا جارٍ على القاعدة بحفظها، أو مخالفٌ للقاعدة مخلٌّ بسلامة التركيب بإهماله لها، أمَّا الرتبة غير المحفوظة فالتقديم فيها أمرٌ اختياريٌّ يمكِّن من التصرُّف في العبارة؛ لأنَّه يصبح وسيلة أسلوبيَّة تُستجلب بها المعاني وتُقلَّب العبارة لتناسب مقتضى الحال، ولهذا دار البحث البلاغيُّ في علم المعاني حول الرتبة غير المحفوظة.

مخالفة الأصل فيهما:

ينطلق الحديث عن التقديم والتأخير من منطلق الرتبة الَّتي منها – كما أسلفت – رتبة محفوظة لا تُخالَف إلاَّ خطأً وانحرافًا عن النظام السياقيِّ، ورتبة غير محفوظة قد تُراعَى وقد لا تُراعَى.

والترتيب الَّذي جعله النظام النحويُّ أصلاً في الرتبة غير المحفوظة لا يُسأل عن علَّته في غالب الأحيان، وإنَّما يُسأل عمَّا جاء على خلافه: لمَ خالف؟ وما الغاية من الخلاف؟

فالتقديم والتأخير نوعٌ من التصرُّف في التركيب والعدول عن أصل ترتيب عناصره لغاية بيانيَّة معنويَّة، وهذا التصرُّف لا يكون اعتباطًا لغير علَّة وإلاَّ كان جورًا على التركيب ومعناه وإفسادًا للكلام بأسره.

حاصل القول في ظاهرة التقديم والتأخير (الجائز) أنَّها تفتقر إلى أمور:

الأوَّل: تحديد الأصل في ترتيب عناصر التركيب.

الثاني: تحديد العدول عن الأصل في هذا الترتيب.

الآخر: البحث عن علَّة هذا العدول وتأثيره في المعنى والدلالة.

أغراض التقديم:

للتقديم أغراض متعدِّدة متنوِّعة، يتعيَّن أحدها بحسب العنصر المقدَّم، وبحسب المقامات والأحوال، إلاَّ أنَّ الغرض الأوَّل من تقديم عنصرٍ ما هو كون ذكره أهمّ من ذكر باقي أجزاء الكلام، والعناية به أكثر من العناية بذكر غيره، وهو ما عبَّر عنه سيبويه بقوله في الفاعل والمفعول: " ... يقدِّمون الَّذي بيانه أهمُّ لهم وهم ببيانه أعنى، وإن كانا جميعًا يُهِمَّانهم ويعنيانهم "، وجعله الإمام عبد القاهر قاعدةً للتقديم بقوله: " ... لم نجدهم اعتمدوا فيه شيئًا يجري مجرى الأصل غير العناية والاهتمام "، إلاَّ أنَّه أكَّد أنَّ الاقتصار على العناية والاهتمام لا يكفي لبيان سبب تقديم لفظٍ ما، بل يجب أن يُفسَّر وجه العناية فيه وسبب أهمِّيَّته الَّتي جعلته يتقدَّم في حين تأخَّر غيره.

وما دام القول بالعناية وحدها لا يكفي فقد ذكر العلماء من الأغراض ما يُعدُّ وجوهًا لهذه العناية؛ ففيها تفسيرٌ لها وتعليل، وليس فيها حجرٌ على غيرها من الأغراض؛ فلكلِّ سياقٍ خواصُّه، ولكلِّ تقديمٍ أسراره.

وممَّا ذكروه من أغراض تقديم الخبر المفرد على المبتدإ:

1 - التخصيص، كأن يقول أحد: زيد إمَّا قائم أو قاعد، " فيردِّده بين القيام والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما "، فالردُّ عليه يكون بتقديم الخبر لتخصيص المبتدإ به، فيقال: قائمٌ هو

2 - الافتخار، نحو: " تميميٌّ أنا "، فتقديم الخبر هنا " يُفهَم منه معنى لا يُفهَم بتأخيره "، وهو الافتخار – أو غيره كالتخصيص في مقام آخر – فيجب التقديم مراعاةً للمعنى والغرض.

3 - التفاؤل أو التشاؤم، مثل: ناجحٌ زيدٌ، ومقتولٌ إبراهيم.

ومن أغراض تقديم الخبر الظرف والجارّ والمجرور:

1 - الاختصاص، نحو قول الله تعالى: ? لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ?، فالغرض من التقديم هنا بيان " اختصاص الملك والحمد بالله عزَّ وجلَّ " لا بغيره.

ويجب التنبيه هنا إلى أنَّ التقديم للاختصاص ليس مقصورًا على كون المقدَّم ظرفًا والمؤخَّر مبتدأ؛ فقد " كاد أهل البيان يُطبقون على أنَّ تقديم المعمول يفيد الحصر، سواء كان مفعولاً أو ظرفًا أو مجرورًا، ولهذا قيل في ? إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ?: معناه: نخصُّك بالعبادة والاستعانة ".

2 - التنبيه من أوَّل الأمر على أنَّ الظرف خبرٌ لا نعت، كما في قول الشاعر:

له هممٌ لا منتهى لكبارها وهمَّته الصغرى أجلُّ من الدهر

فإنَّه " لو أخَّر فقال: هممٌ له، لتُوُهِّم أنَّه صفة "، فقدَّم الخبر للتنبيه وإزالة الوهم.

ولتقديم المبتدإ على الفعل أغراض كثيرة، منها:

1 - التخصيص بالخبر الفعليِّ، نحو: أنا سعيتُ في حاجتك؛ لإفادة الانفراد بالسعي وعدم الشركة فيه.

2 - تحقيق الأمر وإزالة الشكِّ، نحو: هو يعطي الجزيل، فليس الغرض هنا ادِّعاء اختصاصه بذلك دون غيره، وإنَّما الغرض تأكيد المعنى في نفس السامع.

3 - تعجيل مسرَّة السامع أو مساءته، نحو: خليلك عاد من السفر، ونحو: الكئيب يزورك اليوم.

وغير ذلك من الأغراض.

قيمة التقديم والتأخير:

ظاهرة التقديم والتأخير – شأن الظواهر السياقيَّة الأخرى كالحذف والزيادة وغيرها – مظهرٌ من مظاهر شجاعة العربيَّة؛ ففيها إقدام على مخالفة لقرينة من قرائن المعنى من غير خشية لبس، اعتمادًا على قرائن أخرى، ووصولاً بالعبارة إلى دلالاتٍ وفوائد تجعلها عبارةً راقيةً ذات رونقٍ وجمال.

والقيمة البيانيَّة للتقديم والتأخير مرتبطةٌ بالجائز منه، ومرهونةٌ بحسن استعماله على وفق مقتضى الحال، والوعي باستعماله في موضعه، وإلاَّ كان عبثًا لا قيمة له ولا فائدة بل ربَّما يؤدِّي إلى إفساد المعنى.

والأغراض الَّتي تتفتَّق عنها ظاهرة التقديم تبيِّن ثراءها وكثرة فوائدها، وكونها منبعًا ثرًّا لرقيِّ الأساليب وارتفاعها في البيان.

فلا عجب حين نرى احتفاء الإمام عبد القاهر الجرجاني بهذه الظاهرة في قوله عن بابها: " هو بابٌ كثير الفوائد، جمُّ المحاسن، واسع التصرُّف، بعيد الغاية، لا يزال يفترُّ لك عن بديعة، ويفضي بك إلى لطيفة، ولا تزال ترى شعرًا يروقك مسمعُه، ويَلطُف لديك موقعُه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك ولطف عندك أن قُدِّم فيه شيءٌ وحُوِّل اللفظ عن مكان إلى مكان ".

صالح الشاعر

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير