فإذا نطقت بالبسملة استشعرت عظمة الموقف الذي أنت واقفه وقدر العمل الذي أنت عامله، فإنك واقف بين يدي الله وعامل باسمه، ومن شأن ذلك أن يوحي إليك أنه لا اعتداد بشيء ما لم يكن لله تعالى خالصا، فإذا قلت "الحمد لله رب العالمين" شعرت بفيض من نعم الله تعالى يغمر ويملأ وجودك ووجود كل شيء، فإنه كون الحمد محصورا في الله سبحانه دليل على أنه مصدر كل نعمة، وهذا داع إلى قطع حبال التعلق بغيره تعالى؛ لأجل تحقيق منفعة أو دفع مضرة، ويؤكد ذلك وصفه بأنه رب العالمين، فهو مشعر بخضوع كل ما في الوجود لعزه وسلطانه، وافتقار كل كائن إلى فضله وإحسانه، فما من ذرة في الكون إلا وهي واقعة تحت حيطة قدرته، معلنة بلسان حالها افتقارها إلى فضله ومنته، وشعورك بذلك يقوي صلتك به تعالى بحيث لا ترى غيره أهلا لأن يرجى أو يتقى، كما يستدعي أن تكون في أحوالك المتقلبة، وتصرفاتك المتنوعة تتحرى مرضاته، وتجانب سخطه، ولا ريب أن قلبك- في مثل هذا الموقف الذي تتجلى فيه آيات توحيده تعالى، وتشاهد شواهد عظمته وجلاله- تغمره الدهشة وتمتلكه الهيبة،
غير أنك إذا قلت "الرحمن الرحيم" أحسست بالسكينة تسري في نفسك، وتمتزج بدهشتك، وبالطمأنينة تزاحم الهيبة في قلبك، فتتعادل فيه كفتا الخوف والرجاء، لأنك تستشعر أن ربوبيته تعالى- مع جلاله الباهر وسلطانه القاهر- هي ربوبية رحمة وإنعام وفضل وإحسان،
ويقوي هذا التعادل إذا ما قلت: " مالك يوم الدين" واستشعرت خطورة ذلك الموقف الذي تمثل فيه بين يدي رب العالمين، وقد تجردت من كل ما خولته في الدنيا، وقطعت جميع علائقك بأحبابك ونصرائك فيها، لتعرض عليك أعمالك السيئة والحسنة فلا يخفى منها خافية، وأنت بين الجنة والنار، أولاهما عن يمينك والثانية عن شمالك، لا تدري إلى أيهما منقلبك والله بك محيط لا مهرب لك عنه، ولا نصير لك دونه، وفي شعورك لهذا تقوية لعزائم الخير في نفسك، وكبح لعزائم الشر التي يمليها عليك هواك.
فإذا قلت" إياك نعبد وإياك نستعين"، أحسست بتضاعف الهيبة لأنك انتقلت إلى خطاب الله تعالى خطاب الحاضر، ومضمون الخطاب نفسه يستلزم منتهى الخضوع والوصول إلى أقصى حد في التواضع، لأن معنى خطابك تقديم عبادتك إليه تعالى وهو غني عنك وعنها، إنما هي وظيفتك التي لأجلها خلقك، ورفع قدرك بما بسط لك من نعمة وسخر لك من خلقه، فقيامك بها إنما هو شرف لنفسك ومنفعته عائدة إليك.
وهذا الخطاب منك يقتضي عدة أمور، منها: صدق المقال، وإخلاص السريرة، وتعظيم المقام، والاستمرار على الخضوع المطلق للمعبود، وطاعته الدائبة، والعطف والرحمة بعباده. فإن الله علمك في هذا الخطاب أن تشرك نفسك مع غيرك من عباده العابدين، ولم يعلمك أن تخاطبه بصيغة فردية، التي تقتضي استقلالك عنهم، وفي هذا ما يقتضي وحدة الأمة المؤمنة القائمة بعبادة ربها، وحدة عامة في الشعور والإحساس، وفي القول والعمل، وفي المبادئ والأهداف، وفي الآلام والآمال. فإذا قلت: " وإياك نستعين" شعرت بقيمتك عند خالقك، إذ لم يجعل بينك وبينه وسائط تستعين بها في طلب محبوب أو اتقاء مخوف، كما أنه لم يجعل بينك وبينه وسائط تعبدها دونه، فالعبادة والاستعانة خاصتان به تعالى وذلك فيما لم يجعل الله التعاون فيه بين الناس من سنن كونهم ونواميس حياتهم- كما تقدم تفصيله في تفسير الفاتحة الشريفة- وفي شعورك بهذا تخليص لك من التشبث بالأوهام، كالضراعة إلى الموتى في القبور، أو إلى الأشجار والأحجار، أو العيون والأنهار، أو الجن والشياطين، في طلب فكاك من معضلة أو وصول إلى هدف. فإذا قلت: " إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"، شعرت أنك أما طريقين:
طريق الهداية والاستقامة المؤدي إلى نعمة الله تعالى بالتوفيق والفوز بالرضوان، وهو وفق الله لسلوكه عباده الصالحين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وطريق الضلال والانحراف المؤدي إلى غضب الله وعقوبته، وتتشعب منه مسالك لا تحصى كلها ملتوية مطموسة المعالم وهو طريق الفريق الآخر الذي نكب عن صراط الحق، وتعرض لغضب الخالق سبحانه.
وفي هذا الشعور ما يدعو إلى التبصر في مسالك الحياة والدؤوب على اتباع الحق، واجتناب الباطل، ويدعوا إلى الترابط المديد بين أهل الحق، أسلافهم وأخلافهم، فلا تخرج أجيالهم عن كونها حلقات متواصلة في سلسلة واحدة.
وهكذا شأن الخاشع في صلاته في كل ما يتلوه من القرآن وما يكرره من تكبير وتسبيح وتعظيم، وجميع حركاته من قيام وقعود وركوع وسجود.
فإذا أدى صلاته على هذا النحو خرج منها طاهر الروح زكي النفس، نقي الوجدان، مرهف الحس، مهذب الأخلاق.
فإذا خاض من بعد غمار الحياة وكاد يتلوث من جديد بدخانها وغبارها، عاد إلى هذا المعين الفياض فارتمى فيه وتطهر من أوضاره وتخلص من أكداره، وهكذا تتكرر العملية في اليوم والليلة خمس مرات، فضلا عن الرواتب والنوافل.
وقد صور رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأثر النفسي للصلاة وتطهيرها باطن الإنسان من الأرجاس المعنوية في صورة المحسوس المألوف- وهو الطهارة الحسية- حيث قال صلى الله عليه وسلم: " أرأيتم لو أن على باب أحدكم نهرا جاريا غمرا ينغمس فيه كل يوم وليلة خمس مرات أيبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس"، وهو مثل أراد به صلى الله عليه وسلم إفهام العقول وتقريب المعاني فإن النفس آلف للمحسوس وأدرك لحقيقته، وإلا فشتان بين نقاء الظاهر ونقاء الباطن، وطهارة الجسم وطهارة الروح.
عذراً لطول المقال .. (اقتطعته من كتاب: أنوار من بيان التنزيل)
¥