[تحصيل الأسانيد السماعية للكتب ونماذج لعناية السلف بها]
ـ[عبد الله بن أحمد]ــــــــ[13 - 11 - 06, 08:45 م]ـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد
فلا يخفى على الإخوة الأفاضل أهمية تحصيل الأسانيد السماعية للكتب.
ومن دلائل هذا الأمر اهتمام السلف بذلك من عصور التدوين إلى يومنا هذا، وذلك فيما يعرف بقراءة العرض التي يُقصد منها قراءة الكتاب بتمامه ـ ما أمكن ـ على شيخ مسند؛ وإن كان هذا الشيخ قد يكون قليل الباع في العلم؛ لكنه قد قرأ الكتاب على شيخ مسند.
وسأضرب على ذلك مثالاً ليتبين المقصود:
فهذا أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار، المعروف بابن الشحنة (المتوفى سنة 730 هـ) رحمه الله تعالى، لما ظهر سماعه لصحيح البخاري، ووجدوا اسمه في الطباق، وعرُِف علو إسناده في صحيح البخاري؛ قصده علماء الإسلام في وقته، ورحلوا إليه من أرجاء الدنيا، وجلسوا بين يديه، مع أنه كان أمياً لا يكتب، ولا يقرأ إلا اليسير من القرءان. وممن جلس بين يديه وقرأ عليه: شيخ الإسلام ابن تيمية، والمزي، والبرزالي، وابن مفلح، والذهبي، وابن كثير، والعلائي، وابن جابر الوادياشي، وجماعة من آل قدامة وغيرهم رحمهم الله تعالى. حتى قُرِئ عليه صحيح البخاري أكثر من سبعين مرة.
ولم يكتفوا بقراءة مسموعاته عليه، بل قرؤوا عليه مجازاته أيضاً، وأحضروا أطفالهم في مجالس السماع، ومن لم يستطع استجاز لنفسه ولأولاده ولو بالمكاتبة.
وهذا يبين اهتمامهم بتحصيل العلو في السماع، فإن لم يكن ففي الإجازة.
وإنما مثلت بهذا المثال لكونه بعد عصور التدوين وانتشار النسخ وضبطها، وهؤلاء الأعلام من أشهر من كان في زمانهم، ولم يعدوا ذلك من الفضول.
بل هذا الشيخ ابن تيمية حرص على سماع الحديث وإسماعه، وكثرت مسموعاته، حتى اشتهر بذلك، فسمع الكتب الستة، ومسند أحمد، والمعجم الكبير للطبراني، وسنن الدارقطني وغيرها، وتكرر سماعه لبعض الكتب، فسمع صحيح البخاري مرات عديدة.
ولم يكن هذا منه في بدايات الطلب فحسب، بل استمر على ذلك حتى آخر حياته، فحضر مجلس الختم على ابن الشحنة (سنة 713 هـ)، بل حضر سماع الصحيح كاملا في عشرين مجلس متوالية،لم يتخللها سوى الجمعة، وضبط القراءة بأصل كان عنده، وذلك (سنة 724 هـ) أي قبل وفاته بأربع سنوات فقط.
ولشهرته بذلك فقد استجاز منه العلماء، فأجاز لأهل بعض النواحي: كسبتة، وأصبهان، وغيرها وانتقى من صحيح البخاري أحاديث، وجمع له ابن الواني أربعين حديثاً من مسموعاته فقرأت واشتهرت.
وقد كان السلف رحمهم الله تعالى يقرؤون في مجالس متوالية، بقراءة سريعة، حتى ضربت بعض الأمثلة النادرة في ذلك. فهذا فارس هذا الميدان الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى قرأ صحيح البخاري في ثلاثة أيام فقط، وقرأ المعجم الصغير للطبراني في مجلس واحد بين الظهر والعصر، وله ولغيره أمثلة عديدة في هذا الباب.
ولهذا العرض للكتب على المشايخ فوائد عديدة لا تخفى على المتأمل المنصف، ولو لم يكن فيه إلا كثرة ذكر الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظ الوقت بالجلوس بين أيدي العلماء؛ لكفى.
ومما ينبه إليه أن أولى ما يُتلقى ويقرأ على المشايخ هو كتاب الله تعالى، وهناك والحمد لله العديد ممن يُقرِئ القرءان سواء لحفص أو بالقراءات السبع أو العشر الصغرى أو الكبرى والأربع الشواذ.
ثم بعد ذلك دواوين السنة والأجزاء الحديثية.
ثم بعد ذلك كتب السلف ومن بعدهم.
وهذا الاهتمام بتحصيل السماع للكتب يزيد في بعض الأزمنة ويقل في أزمنة أخرى.
وقد بدأ الاهتمام بإحياء هذه السنة ولله الحمد في هذه الفترة الأخيرة في أماكن عديدة كالحرمين والرياض والكويت وغيرها وقُرئ العديد من الكتب كالكتب التسعة والسنن الكبرى للبيهقي وبلوغ المرام والشمائل للترمذي وغيرها كثير.
وهذه كلمات كتبتها على عجل نصحاً لنفسي ولإخواني طلبة العلم لا سيما مع إلحاح عدد من الإخوة علي. فالبدار البدار لإدراك أكابر المسندين الذين لهم أسانيد نادرة وعالية خصوصاً من سينزل الإسناد بموتهم.
وفي الختام أنبه إلا أني قد استفدت في سياق الكلام عن ابن الشحنة وابن تيمية من مقدمتي كتابين؛ وهما:
1. الإمتاع بذكر بعض كتب السماع للشيخ عبد الله العبيد (ص 10 - 15).
2. مجموع فيه مصنفات لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 117 ـ 118).
ولا نستغني عن الإضافات التي تثري الموضوع، وخاصة من بعض المشايخ المعتنين بهذا الأمر.
وسأتبع هذا الموضوع _ قريباً إن شاء الله _ بموضوع آخر لجمع المشايخ الذين لديهم أسانيد سماعية للكتب مع بيان الشرط فيه في محله.
والله المستعان وعليه التكلان وبه البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وكتب: عبد الله بن أحمد التوم
¥