[الوجازة في الإجازة]
ـ[المستشار]ــــــــ[25 - 03 - 06, 05:41 م]ـ
[الوجازة في الإجازة]
بسم مَن خلق فسوَّى وقَدَّرَ فهدى، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياه نعبد، وإياه نستعين.
وصلاةً وسلامًا بعدد ما شاء الله مما أعلمه وما لا أعلمه على المبعوث رحمة للعالمين، الصادق الأمين، الرسول الأكرم، والنبي الأعظم، خاتم الرسل أجمعين، صلوات الله وتسليماته عليه، وعلى إخوانه النبيين والمرسلين.
وبعد:
فقد اختلفت وقائع ((الإجازة)) وأحكامها من عصرٍ إلى عصر، حسب وقائع الدهور، وتصاريف الأيام، وقد رأيتُ اختزال فكرتي حولها في سطور معدودة، تاركًا التمثيل للباحث الجاد، فهو يعرف كيف يحصل على أمثلة ذلك، وأفضل منه بحمد الله عز وجل، ولنختزل فكرتنا ومرادنا في كلماتٍ كالتذكرة للسابق العالم، والتبصرة لأمثالي من محبي العلم، والراغبين في التعلم.
فلم تكن ((الإجازة)) معروفة بصورتها الحالية في العصور الأولى، إِذ كان الأمر قائمًا على المشافهة والسماع، فلما ظهرت الإجازة لم تلق رواجًا لدى أهل العلم، وبدأنا نرى في تراجم الرواة عبارات على نحو: ((كان يتوسع في الإجازة ويقول فيها حدثنا)) ((كان يرى الإجازة سماعًا)) ((لم يسمع من فلان، ولكن أخذ عنه إجازة)).
وبدأنا نرى في الثناء على الناس: ((كان يروي بالإجازة ولكنه كان يُبَيِّن)) يعني يبين كيفية أخذه وتَحَمُّلِه للعلم، إجازةً لا سماعًا.
وفي الذم والقدح رأينا: ((كان يروي بالإجازة ولا يبين)) ((أكثر ما عيب عليه روايته بالإجازة ولا يبين)) وقد عيب ذلك على مشاهير، كالمرزباني صاحب مدونات الأشعار المشهور.
فدلَّنا هذا كله على وجود فرقٍ جوهريٍّ في الإجازة عن غيرها، وإلا لماذا عُنِيَ العلماء بتمييزها من غيرها؟
نذهب لكتب ((علل الحديث)) لنقف على جانبٍ مهم من جوانب الإجازة، إِذْ نرى الخلل قد أَتَى مِن جهتها، فوقع الإعلال بها في بعض المواضع، وسَلِمَتْ في أخرى!!
يقول الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (6/ 331): ((وكان ابن جُرَيج يرى الرواية بالإجازة وبالمناولة، ويتوسع في ذلك، ومن ثَم دخل عليه الدَّاخِل في رواياته عن الزهري، لأنه حمل عنه مناولة، وهذه الأشياء يدخلها التصحيف، ولاسيما في ذلك العصر لم يكن حَدَث في الخط بَعْدُ شكل ولا نقط)).
ومن هنا قالوا: ((لمالك شرط في الإجازة أن يكون الفرع معارضا بالأصل حتى كأنه هو وأن يكون المجيز عالما بما يجيز ثقة في دينه وروايته معروفا بالعلم وأن يكون المجاز من أهل العلم متسما به حتى لا يضع العلم إلا عند أهله)) نقله القاضي عياض في ((الإلماع)) (95) عن أبي العباس المالكي.
ونقل عياض أيضًا عن أبي عمر الحافظ قوله: ((والصحيح أنها لا تجوز إلا لماهر بالصناعة، وفي شيء لا يشكل إسناده)).
ولسنا بصدد استيعاب الأقوال والمذاهب في الإجازة، غير أننا نشير إلى أمرين:
الأول: عدم رواجها في الأزمنة الأولى، وقبولها في أضيق نطاق وبشروط معينة ومحددة، تشبه شروط السماع والمشافهة في الغالب.
والثاني: أنها كانت بحاجةٍ إلى علمٍ ودرايةٍ للمجاز والمجيز، وإلا دخلها الخلل، بسبب ما يدخل في هذه الأشياء من التصحيف والتحريف كما نَبَّه الذهبي في كلامه السابق.
مضت الأيام، وتوالت العصور حتى صارت الرواية في الحقيقة رواية للكتب، وتوسع الناس في أمر الإجازة، بدءًا من القرن الرابع فما بعده، بعد انقضاء زمن الرواية والصرامة في تطبيق الشروط المعروفة في الجرح والتعديل، وبدأ الاعتماد على الكتابة في نقل الكتب، عدا القرآن الكريم، فقد ميزه الله عز وجل بميزة ليست لغيره حتى الآن وإلى قيام الساعة، وهي الاعتماد في نقله على السماع والمشافهة في كل عصرٍ ومصر، إِذِ التلاوة وقواعدها وأصول القراءات وكيفية النطق بها، كل ذلك لا يمكن حصره ولا معرفته إلا سماعًا، فلن تجد من ينطق الإمالة أو القلقلة أو الإشمام وغيرها عن طريق الكتابة أو القراءة المجردة، بل لابد في هذه وغيرها من شيخ متصل الإسناد، سماعًا، كابرًا عن كابرٍ، وهذه إحدى خصائص المعجزة القرآنية الخالدة، التي لا تتوفر لغيرها.
ومصداق ذلك الآن تسابق الناس أفواجًا بعد أفواج بالملايين لحفظ القرآن الكريم، وتجويده على المقرئين المهرة، وتكاسل الملايين في الوقت نفسه عن حفظ مائة حديث إلا من رحم الله عز وجل!!
¥