تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إذا قيدنا الأديب بعشرة أسطر كما سيرد في كتابة القُصَيْصَة، وقيدنا كاتب القُصَيْصِصَة بخمسة أسطر، وقيدنا مبدع القُصَيْصيصة بثلاث فقرات نكون قد صنعنا إطارا يحيز القصص وهذا جميل لأن الإطار جزء من العمل؛ يضفي عليه جمالا من نوع آخر، إنه دورق معدني أو قارورة خزفية داعبتها أنامل الصانع التقليدي بتلوينه لها وزخرفته عليها، أو هي طاس ُتحيّز فيه باقة ورد، يظهر جميلا بذاته مبصوما بيد الصانع، ويظهر أجمل بما يحوي، فحضرتك إذا كانت لديك عشر وردات ولديك دورق قطره سنتمتر واحد وقررت وضع الورد فيه لتزيين غرفتك فإنك تستطيع ذلك، ولكنك ستفعل على حساب تخريب الجمال، وإتلاف بهائه، والذهاب برونقه، فستعمد إلى إدخاله فيه بالقوة، وبعملك المنظور ستكسر أغصان الورد، وستتلف معالمه، وتغير شكله الجميل وتحيله إلى قبيح مشفاق لم يعد يعبق شذى طيبا.

وإذا أنت تناولت دورقا قطره متر واحد ووضعت فيه الورد المذكور ـ عشر وردات ـ فإنك لن تحصل على جمال مركب ولو أن يكون وردك فاتنا، ودورقك بديعا، وعليه لا بد من مراعاة الأحجام والكثافة مع مراعاة ما تحويه الأحجام والكثافة من مظروفات أغلى قيمة من ظروفها، أو هو بتعبير آخر حرص على المطابقة البديعية النابعة من جودة الأسلوب وقوة السبك ورصانته بغية تقريب الحقائق، وتحميض الصور المعتكفة في محراب الأسلوب ..

وإذن نذهب إلى القول المطمئن أنه لا بد من تحديد الشكل، لا بد من إظهار القالب المراد له أن يحوي ما يحوي من أجناس أدبية، ولا بد في الطرف المقابل أن لا نحدد الشكل والقالب، ندخل التضاد بعقلية نقدية أجناسية لا تنفلت منها جزيئات الجنس، ولا تتأين عندها أنواع الإبداع التي تخصها؛ فنقرر أخيرا أن الشكل والقالب هو هو كما سنحدده، ولكنه في الأهمية النقدية والذوقية لا يأخذ بالعدد والكثافة والشكل والقالب إلا إذا أحس المبدع أنه قد بدأ يستشعر خروجه من جنس إلى جنس، خروجه من جنس أدبي معين، ودخوله في جنس أدبي آخر، وهنا، هنا بالضبط يجب عليه أن يتراجع إلى جنسه الذي كان يكتب فيه ويتقيد بحدوده، يجب عليه أن يحذر ما بعد الحداثة التي تتلف الأذواق، وتستعطر المدانس، وتخلط الأجناس خلط المجاري للمياه العذبة والعادمة، ولا يقال بأن الحدود لا وجود لها في الكتابة الأدبية، لا يقال ذلك لأن الحدود موجودة في كل شيء بما فيها الكتابة الأدبية ونقدر هذا جيدا، وللحسم فيه يكفينا اصطناع محيط للمبدع يسبح فيه، محيط كبير جدا تسعه القصيصيصة والقصيصِصَة والقصيصَة والأقصوصة والقصة القصيرة والرواية القصيرة والقصة الطويلة والرواية ..

إذن لا حد لجنس أدبي عند الإبداع إلا عند التداخل مع جنس أدبي آخر، ولا يعني هذا أن جنسا ما لا يحق له الإطلالة والتحليق والغوص في محيط غيره، لا، ولكن ذلك محسوب بدقة عبقرية، فمثلا لا يتقيد جنس أدبي ما بما ينهل منه، فالقصة القصيرة إن زعم أنها تأخذ من الأحدوثة والنكتة مثلا، فإن غيرها لا يمنع من الأخذ منها، لا يضيق الجنس عند سريانه في أجناس أخرى يسبح فيها ويمتح من عيونها، ولكنه في كل الأحوال يبني بما يبدع في جنس محدد، وليس في كل الأجناس، وإذا استطاع المبدع أن يبني في جميع الأجناس فإن ذلك لا يعطي خلطا، ولا ينتج فسادا، أو يجلب معايب، بل يعطي جنسا جديدا يكون عاليا في إبداعه، شامخا في عليائه، عزيزا بفنه، ويكون مبدعه بحق عبقري فذ لأنه بذلك يسري بجنسه كالماء في جميع الأجناس ولا يتميز إلا في جنس معلوم، قد يكون بفراغه المسيج برزخا في محيط من الإبداعات المتلونة يستطيع التفرد فيها والتميز عنها، وهذا تجريب لن يعطي إلا الروعة، ولن يستقطر من المعاني والأفكار والصور إلا العطر الفواح، ولن يذكّي بروعة إبداعه إلا الشذى الروحي الطيب .. ولنا في تقنية الانصزال في الأدب المَمْدَري برواية: نساء مستعملات شيء مما ذكر، كما لنا فيها تقنيات أخرى جعلت ُبنى الرواية قائما على عدة أجناس تسبح في الرواية كما تسبح الكواكب والنجوم في أفلاكها ولا تصطدم ببعضها ..

ويرى د. الفيصل أن عيوب القصة ((الحالية التي يتمنى تلافيها مستقبلاً فهي تكمن في عدم وضوح الحدود بينها وبين أجناس أدب قريبة منها)) المصدر السابق.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير