[من يفهم القرآن؟ وكيف يفهمه؟]
ـ[عبدالرحمن الحاج]ــــــــ[02 Jun 2009, 12:17 م]ـ
[من يفهم القرآن؟ وكيف يفهمه؟]
عبد الرحمن الحاج
عام 2002 ـ على ما أذكر ـ التقيت صديقي البروفيسور أ. م أستاذ فلسفة (معروف جداً) في دمشق على هامش مؤتمر دار الفكر السنوي، وهناك كان قد تصادم مع بعض الشيوخ الدمشقيين الكبار، فقال لي: "إنه لا يستطيع أحد أن يفهم القرآن كالفيلسوف" فمن وجهة نظره الرؤية الفلسفية هي وحدها التي يمكن أن تزودنا بمنهجية التأويل "الحقيقية"، لا يأبه أن يكون فاهماً لتراث "الشيوخ اللاهوتيين" أو لا، فهؤلاء في النهاية لاهوتيون يصعب عليهم في النهاية القدرة على الإمساك بالمعنى.
محمد أركون والحداثيين من أضرابه يرون في العلوم الاجتماعية واللسانية أداة أساسية وإلى حد ما وحيدة تمكن من فهم القرآن فهماً معاصراً، وشرط هذا الفهم هو قطيعة تامة مع المعارف التراثية ونسقها الفكري، فالتراث ههنا هو تراكم من الماضي يجب التخلص منه عبر القطيعه معه أو حتى تفكيكيه، في هذا الإطار الإحاطة بالمعرفة التراثية وجهلها ليس امراً مهماً في فهم القرآن ذاته، فالأدوات والمناهج التي توفرها العلوم الاجتماعية كافية لهذا.
أحد أبرز النحويين العرب المعمرين (وعلى مذهب كثير من علماء النحو واللغة) يرى في الدرس النحوي والمعجمي أدوات كافية لفهم القرآن، ولا بأس بشيء من علم البلاغة والمعاني التي تساعد في فهم "جماليات التعبير القرآني"، ولا حاجة لمزيد من الأدوات والمناهج (بما فيها علم الأصول) إلى على سبيل التزيد والمبالغة في استكشاف النكات البلاغية والوجوه المرجوحة، وهو منذ سنوات يقوم بتفسير القرآن من النحو والمعجم تحت مسمى إعراب القرآن، ويكاد يرى في علماء الدين غير المتخصصين بالنحو والمعجم مجرد "شيوخ" لا يمكنهم أن يفقهوا من الدين إلا ما ينقلوه عن أسلافنا المفسرين العظام من أعلام اللغة والبيان كابن عطية والزمخشري وأبي حيان الأندلسي! ولا يهم كثيراً معرفة أصول الفقه، فأصول الفقه ـ من وجهة نظره ـ مجموع من قواعد اللغويين نفسها، فبضاعتهم إذا ترد إليهم!
متبعو منهج المحدثين يجدون أنفسهم أيضاً يفهمون القرآن أكثر من أي متخصصين آخرين، فمعرفتهم بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته الشريفة وأقوال الصحابة والتابعبين يغنيهم عن الاستعانة بمناهج الرأي، فالرأي أساساً مرذول، ومن يميل منهم إلى قبول ما يعرف يمنهج الرأي يرى أن ثمة فهم صحيح للقرآن هو ما عليه السلف الصالح من القرون الثلاثة الأولى، وينظر متبعوا منهج المحدثين إلى التفسير بعين الريبة، فالفهم "الحقيقي للقرآن" لا يصلح إلا لعلماء الحديث والأثر القابضين على ما قاله السلف قبضاً محكماً.
دارسو الفقه وأصوله عموما لا يرون في القرآن إلا آيات الأحكام، ويرون في باقي الآيات أنها تختص بالجدل العقدي والأخلاقي وهي عموماً مكملة للتشريع وداعمه له، وهي مهمة موكلة للباحثين عن الحجج الكلامية والراغبين في تهذيب النفس وترقيتها تعبداً، وهي عموماً مهمة المفسر أيضاً، ومن الطبيعي والحال هذه أن تنحدر الدراسات القرآنية إلى ادنى مراتب العلوم الشرعية اليوم!
اللغوي النحوي والأصولي والأثري كل منهم يرى نفسه أحق ببفهم القرآن، وعندما يبدأ بعضهم بالنظر إلى إمكانية الاستفادة من العلوم الحديثة يحاول فهمه بمنطق المتربص والباحث عن نفسه في الآخر، فلابد أن العلوم الحديثة ستشهد بأننا سبقناهم، لكن علينا أن نتروى فقط لكي نمسك بالدليل والعثور على البرهان، فالتواصل مع الآخر يجب أن يقوم "على التواصل الإيجابي مع الآخر بغية إبراز عبقرية حضارتنا الإسلامية، و نبوغ علمائنا الأجلاء" لينفق بعض الباحثين 17 سنة أو 15 سنة على هذا الأساس، وتكون النتيجة الأكيدة التي وصلوا إليها "أننا في حاجة إلى اللسانيات و مناهج تحليل الخطاب في المرحلة الحالية لفهم التراث التفسيري [وحسب؟]، و ليس كما يدعي البعض الإتيان بالجديد؛ إذ لا يمكننا أن نبدع بمعنى الإضافة العلمية إلى مجال التفسير، و نحن لم نفهم بعد هذا التراث التفسيري، ولم نستوعبه، و لم نستبطنه، فكيف يمكننا الإتيان بالجديد، إنه ادعاء عار من الصحة، و مجاف للواقع"، وبما أنه لم يفهم أحد التراث التفسيري (غير الزاعم نفسه على الأقل) فالحديث عن الإبداع وهم. ولكن عندما يبدأ أصحاب هذا الزعم بعرض فهمهم للتراث سرعان ما يخلطون بين العلوم النظرية والعلوم التطبيقية في إطار واحد: فهم يرون "أن أعمال المفسرين، وعلماء التفسير وعلوم القرآن [كذا!]، وعلماء الأصول [كذا!]، واللغويين [هكذا بالجملة!] تندرج ضمن اللسانيات و مناهج تحليل الخطاب، الفارق الوحيد بينهما، و هو فارق مهم جدا، خاصة عندما نتحدث عن أعمال المفسرين، أنها ظلت أعمالا تطبيقية و لم ترق إلى مستوى التنظير."! لا بأس أن يحصل ذلك الخلط، فالذين لا ينحدرون من الاحتصاصات الشرعية لا عليهم أن يقعوا في مثل ذلك وأعظم منه.
من يفهم القرآن إذا؟
لا علماء النحو ولا اللغويين المعجميين، ولا الفلاسفة ولا حتى العلماء الاجتماعيين، يبدو وحدهم المتخصصون في الدراسات الشرعية والذين يجمعون برصانة بين المعرفة التراثية (والأصولية منه على وجه أكثر تخصيصاً) والمعرفة الحديثة قادرون على ذلك، وعلى ما يبدو أن المنحدرين من الدراسات اللغوية وجماعات الدراسات الفلسفية والاجتماعية يعانون مشكلة جوهرية هي عدم قدرتهم على ترميم معرفتهم بالتراث الإسلامي العلمي وعدم مقدرتهم على فهم الآخر ومعارفه فهماً جيداً بحيث أنهم لم يكن لهم القدرة أن يكونوا قادرين على هضهم معرفتين متباعدتين عنهم في وقت واحد، فكيف يمكنهم بهذا الفهم الأعرض فهم القرآن؟ الحقيقة أنهم في الغالب لا يطمحون لفهمه مباشرة، فشعورهم بالعجز طبيعي بسبب نمط المعرفة وسطحيتها، إنما يطمحون لفهم "التراث التفسيري" وعبره فقط يُفهم القرآن، ذلك أن مفتاح السر في فهم القرآن يكمن في جهود العبقريات السابقة، "إنهم يسبقون زمانهم، و لكننا نتيجة عبقريتهم ونبوغهم لا نستطيع مجاراتهم"، فهل يقطع القوم الطريق على استمرار فهم القرآن كما قطعوا الاجتهاد الفقهي وأغلقوه؟
والله المستعان
¥