[قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله [النمل:65]]
ـ[أبو عبيدة الهاني]ــــــــ[11 Aug 2009, 09:29 م]ـ
قال ابن تيمية في تفسير قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) [النمل:65]
فاستثنى نفسه، واللفظ العام (من في السموات والأرض) ولا يجوز أن يقال: هذا استثناء منقطع لأن المستثنى مرفوع، ولو كان منقطعا لكان منصوبا. والمرفوع على البدل، والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو بمنزلة المفرغ، كأنه قال: (لا يعلم الغيب إلا الله) فيلزم أنه داخل في (من في السموات والأرض) (دقائق التفاسير، ج5/ص50)
يجدر التنبيه إلى أن رفض ابن تيمية للاستثناء المنقطع مخالف لجمهور المفسرين، فقد قال ابن كثير مثلا في تفسير قوله تعالى: (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلما لجميع الخلق: إنه لا يعلم أحد من أهل السموات والأرض الغيب. وقوله (إلا الله) استثناء منقطع، اي: لا يعلم أحد ذلك إلا الله عز وجل، فإنه المنفرد بذلك وحده، لا شريك له، كما قال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) الآية .. والآيات كثيرة. (ج10/ص425)
والسؤال المحير: ألا يلزم من إدخال الله في (من في السموات والأرض) القول بالمجاز في حين أن ابن تيمية يرفض المجاز مطلقا؟
وإذا كان الإطلاق حقيقيا فكيف يدخل الله تعالى في (من في السموات والأرض) وهو ليس فيهما ولا عليهما بل على العرش؟
ولماذا خالف ابن تيمية جمهور المفسرين برفض الاستثناء المنقطع مع أنه وارد في لغة العرب؟
ـ[محمد العبادي]ــــــــ[12 Aug 2009, 06:23 م]ـ
أولا: قول ابن تيمية ليس مخالفا لجمهور المفسرين، بل هو رأي المحققين، كما قال ابن عاشور -وسيأتي-. وقال القرطبي: "و (مَنْ) في موضع رفع؛ والمعنى: قل لا يعلم أحد الغيب إلا الله؛ فإنه بدل من (مَن) قاله الزجاج".
ثانيا: على القول بأن الاستثناء متصل فهو جارٍ على ما يفهمه العربي من مثل هذا التركيب، وما يعتقده المسلم من إحاطته تعالى بالسموات والأرض وعدم حلوله فيها، فهو بمعنى: لا يعلم (أحدٌ) الغيبَ إلا الله.
قال ابن عطية: إنما نزلت لأن الكفار سألوا وألحوا عن وقت القيامة التي يعدهم محمد فنزلت هذه الآية فيها التسليم لله تعالى وترك التحديد، فأعلم عز وجل أنه لا يعلم وقت الساعة سواه فجاء بلفظ يعم الساعة وغيرها.
وقال ابن عاشور:
"واستثناء (إلا الله) منه لتأويل (من في السماوات والأرض) بمعنى: أحد، فهو استثناء متصل على رأي المحققين وهو واقع من كلام منفي. فحق المستثنى أن يكون بدلاً من المستثنى منه في اللغة الفصحى فلذلك جاء اسم الجلالة مرفوعاً ولو كان الاستثناء منقطعاً لكانت اللغة الفصحى تنصب المستثنى.
وبعد فإن دلائل تنزيه الله عن الحلول في المكان وعن مماثلة المخلوقات متوافرة فلذلك يجري استعمال القرآن والسنة على سنن الاستعمال الفصيح للعلم بأن المؤمن لا يتوهم ما لا يليق بجلال الله تعالى".
ـ[أبو عبيدة الهاني]ــــــــ[13 Aug 2009, 01:12 ص]ـ
سأوضح الإشكال المطروح بالنسبة لتفسير ابن تيمية لهذه الآية الكريمة ليتبين هل وافق الجمهور والمحققين أو لا، وهل التزم التفسير بناء على نفي المجاز أو لا.
فقد قال فيما نقل عنه في دقائق التفسير بعد الكلام المنقول أعلاه: "لفظ السماء يتناول كل ما سما، ويدخل فيه السموات والكرسي والعرش وما فوق ذلك. اهـ
فالإشكال في إدخال ما ليس من السماء حقيقة في السماء، فمعلوم أن العرش غير السموات وغير الكرسي، فلكل حقيقته، فضلا عن كون ما فوق العرش ليس من السموات أصلا، فبأي قرينة يدخل ما ليس في أجرام السموات فيها، وبأي علاقة.
ثم يرد على هذا أنه جمع بين الحقيقة والمجاز في عبارة واحدة وهذا غير جائز عند الجمهور.
ومن تتبع لفظ السموات في القرآن الكريم وجدها منعوتة بالمخلوقية، كما في الآية 60 من نفس السورة النمل حيث قال تعالى: (أمّن خلق السموات والأرض) فكيف يدخل الخالق إطلاقا في عموم ما هو مخلوق؟ لا سيما أن "في" لها معنى ظاهر تفيده وهو الظرفية، وفيها من إيهام ما لا يصح ما لا يخفى، ولهذا نزه المفسرون الله تعالى عن الكون في السماء على وجه الظرفية، كما قال العلامة ابن عاشور في تتمة الكلام الذي نقلته:
ومن المفسرين من جعل الاستثناء منقطعاً وقوفاً عند ظاهر صلة (من في السماوات والأرض) لأن الله ينزّه عن الحلول في السماء والأرض. اهـ
وهذا ما فعله ابن كثير رحمه الله. وقال الواحدي في الوسيط: (قل لا يعلم من في السموات) يعني الملائكة (والأرض) يعني الناس (الغيب) ما غاب عن العباد (إلا الله) وحده. (ج3/ص383) فجعل "في" مفيدة لظرفية الملائكة في السماء. فلا يجوز أن يقال أنهم تكلفوا تنزيه الله تعالى عن الظرفية؛ لأن "في" تفيد الظرفية بمعناها الظاهر في اللغة.
والذين جعلوا الاستثناء متصلا أولوا قوله تعالى (من في السموات والأرض) بـ"أحد"، فكان التأويل: لا يعلم أحدٌ الغيب إلا اللهُ. ولم يخطر على قلوبهم أن الله يندرج في السموات إطلاقا لكون السموات وما فيها موسوم بالمخلوقية، أللهم إلا إن أطلق أن الله في السموات بمعنى السمو والرفعة فيكون من باب المجاز .. ولم يذهب إلى ذلك المحققون من أهل التفسير في هذه الآية بخصوصها، فإن ظاهر "في" يقتضي الظرفية في "السموات" المخلوقة، ولذلك ينزه المفسرون الله تعالى عن ذلك.
بقي أن يقال: قد قال الله تعالى: (أأمنتم من في السماء) فلعله من نفس الباب؟
والجواب أن يراجع قول من وصف بالتحقيق، كالقرطبي وابن عاشور وغيرهم.
¥