تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ]

ـ[محمد بن إبراهيم الحمد]ــــــــ[01 Jun 2009, 06:36 م]ـ

[أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ]

هذا العنوان جزء من آية من سورة الأنعام، وهي قول الله _تعالى_: [الَّذِيْنَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ].

وهذه الآية فَصَل الله بها القضاء بين إبراهيم وقومه، وقد سبقها قوله _تعالى_: عن إبراهيم _عليه السلام_ لما حاج قومه: [فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ].

ففصل الله بين الفريقين، وحكم لإبراهيم _عليه السلام_.

والظلم في قوله _تعالى_: [بِظُلْمٍ]: هو الشرك، وما دونه من سائر المظالم؛ فالشرك هو أظلم الظلم، ويليه ظلم الإنسان للعباد، ثم ظلمه لنفسه بما دون الشرك.

فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة كان له الأمن التام، والهداية التامة في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.

ومن أشرك بالله _عز وجل_ لم يكن له أمن، ولا اهتداء على الإطلاق؛ لأن الشرك _أظلم الظلم_ فهو الظلم الرافع للأمن والهداية.

وأما ما دون الشرك من الذنوب فيحصل للعبد أمن بقدر ما معه من الإيمان، وينتفي عنه من الأمن بقدر ما فعل من الذنوب، فيحصل له أصل الأمن، وأصل الهداية دون أن يحصل له كمالها.

والأمن ههنا شامل للأمن في الدنيا، والبرزخ، والآخرة _كما مر_.

كما أنه شامل لأمن الأديان، وأمن الأفكار، وأمن الأبدان، وأمن الأوطان، وأمن القلوب.

وهذا حاصل لمن لم يلبسوا إيمانهم بشرك ولا معاصٍ.

وإذا تأملت هذا تبين لك سببُ النقص الذي يعترينا من هذا الناحية، وتبين الجواب لمن يقول: لماذا لا نشعر بالأمن التام، والطمأنينةِ في قلوبنا مع أننا لا نشرك بالله، وهل ذلك الأمن والطمأنينة في الآخرة فحسب؟

ويجاب عن ذلك _كما مر_ بأن يقال: إن سبب ذلك هو التفريط ببعض أفراد الإيمان وشعبه؛ فقد يكون سبب ذلك الخوفِ، وقلةِ الأمن _ ارتكابَ بعض الذنوب كالفواحش، والقطيعة، والعقوق، والظلم ونحو ذلك؛ فيعاقب الفرد والجماعة على ذلك، بحيث يشيع القلق، والخوف، وسوء الظن، ويشعر الإنسان بالاضطراب، وقلة الطمأنينة.

وإذا شاع في المجتمع توحيدُ الله، والتواصي بالصبر وبالمرحمة، وساد فيه العدل، والإحسان، والتكافل، والوفاء، والسماحة، وحسن الظن _ حلت فيه الراحة، والطمأنينة، ورفرفت على أجوائه السعادة، والأمن.

وهكذا الحال للأفراد، فَمَنْ تَمَثَّل تلك المعاني عاش في سرور، وراحة، وأمن نفسي.

فحقيق علينا أن نشيع في أوساطنا معنى الأمن بمفهومه الشامل: أمن الفكر، وأمن الأبدان، وأمن القلوب.

وأن نستشعر أن التفريط في ذلك أو شيء منه _ خسارة يتحملها كل مَنْ شارك فيها، أو لم يكن له يدٌ في درئها وهو قادر على ذلك.

وأن ندرك أن الأمن والنعيم يدرك في الدنيا كما يدرك في الآخرة مع عظم التفاوت في ذلك، بخلاف من يظن أن ذلك إنما يكون في الآخرة، وأن نعيم الدنيا إنما هو للكفار؛ خصوصاً إذا رأى ما هم عليه في الدنيا من الرياسة والمال؛ فيعتقد _كما يقول ابن تيمية_ أن النعيم في الدنيا لا يكون إلا لأهل الكفر والفجور، وأن المؤمنين ليس لهم ما يتنعمون به في الدنيا إلا قليلاً.

فهذا خطأ وجهل، بل العكس هو الصحيح، فأهل الإيمان حقاً هم أسعد الناس وأشرحهم صدراً في هذه الدنيا، وأهل الكفر والفجور أشد الناس قلقاً وهماً وكدراً.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية _رحمه الله_ مقرراً هذا المعنى: "وكل هذا محسوس مجرَّب، وإنما يقع غلط أكثر الناس أنه قد أحس بظاهرٍ من لذات أهل الفجور وذاقها، ولم يذق لذَّات أهل البرِّ ولم يخبرها".

قال ابن الجوزي –رحمه الله-: في حال من يتطلع، ويمد طرفه إلى أرباب الدنيا: "فإياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم؛ فإنك تستطيبه؛ لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته، ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة ما لا يوصف؛ فعليك بالقناعة مهما أمكن ففيها سلامة الدنيا والدين".

وقد قيل لبعض الزهاد_وعنده خبز يابس_: كيف تشتهي هذا؟ فقال: "أتركه حتى أشتهيه".

قال الحسن –رحمه الله- في العصاة: "إنهم _ وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين _ إن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم؛ أبى الله إلا أن يُذلَّ من عصاه".

فأهل المعصية يجدون في أنفسهم الذلة، والشقاء، والخوف، حتى وإن رآهم الناس بخلاف ذلك، ولو تظاهروا بالسعادة والسرور، ولو كانوا من الشهرة وبعد الصيت بمكان عال، ولو كانت الدنيا طوع أيمانهم وشمائلهم؛ فالذل والضنك لا يفارقهم، بل يزيد كلما زادوا بعداً عن ربهم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "ولهذا تجد القوم الظالمين أعظم الناس فجوراً، وفساداً، وطلباً لما يروِّحون به أنفسهم من مسموع، ومنظور، ومشموم، ومأكول، ومشروب.

ومع هذا فلا تطمئن قلوبهم بشيء من ذلك.

هذا فيما ينالونه من اللذة، وأما ما يخافونه من الأعداء فهم أعظم الناس خوفاً، ولا عيشة لخائف.

وأما العاجز منهم فهو في عذاب عظيم، لا يزال في أسف على ما فاته، وعلى ما أصابه.

أما المؤمن فهو مع مقدرته له من الإرادة الصالحة، والعلوم النافعة ما يوجب طمأنينة قلبه، وانشراح صدره بما يفعله من الأعمال الصالحة، وله من الطمأنينة وقرة العين ما لا يمكن وصفه.

وهو مع عجزه_أيضاً_له من أنواع الإرادات الصالحة، والعلوم النافعة التي يتنعم بها_ما لا يمكن وصفه".

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير