وللإمام ابن القيم في كتابه الفوائد ص249_251، كلام جميل في هذا الشأن، يقول -رحمه الله-: "مبدأ كل علم نظري، وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصوراتِ، والتصوراتُ تدعو إلى الإراداتِ، والإراداتُ تقتضي وقوعَ الفعل، وكثرةُ تكراره تعطي العادةَ؛ فصلاحُ هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادُها بفسادها؛ فصلاح الخواطر بأن تكون مراقبة لوليها وإلهها، صاعدةً إليه، دائرةً على مرضاته ومحابِّه؛ فإنه _سبحانه_ به كل صلاح، ومن عنده كل هدى، ومن توفيقه كل رشد، ومن تولِّيه لعبده كل حفظ، ومن تولِّيه وإعراضه عنه كل ضلال وشقاء".
وقال: "واعلم أن الخطراتِ والوساوسَ تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكرُ، فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة؛ فَرَدُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
ومعلوم أنه لم يُعْطَ الإنسانُ إماتةَ الخواطر، ولا القوةَ على قطعها؛ فإنها تهجم عليه هجوم النَّفَس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به، ومساكنته له، وعلى دفع أقبحها، وكراهته له، وأنَفَته منه".
إلى أن قال-رحمه الله-: "وقد خلق الله_سبحانه_النفسَ شبيهةً بالرحى الدائرة التي لا تسكن، ولا بد لها من شيء تطحنه؛ فإن وُضع فيها حبٌّ طَحَنَتْهُ، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى مُعَطَّلةً قط، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها؛ فمن الناس من تطحن رحاه حَبَّاً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتبناً ونحو ذلك؛ فإذا جاء وقت العجن والخبز تبيَّن له حقيقة طحينه".
وقال-رحمه الله-: "فإذا دَفَعْتَ الخاطرَ الواردَ عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قَبلْتَهُ صار فكراً جوَّالاً، فاسْتَخْدم الإرادة، فتساعَدَتْ هي والفكر على استخدام الجوارح، فإن تعذر استخدامها رجعا إلى القلب بالتمني والشهوة وتَوجُّهِهِ إلى جهة المراد.
ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار، وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات، وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك؛ فالفكر فيما لا يعني باب كل شر، ومن فَكَّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه، واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه".
إلى أن قال: "وإياك أن تُمَكّن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك؛ فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه، ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة، ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعَنْتَه على نفسك بتمكينه من قلبك، وخواطرك فَمَلَكَها عليك".
ـ[أبوالوليد السقطي الشهري]ــــــــ[25 Jun 2009, 09:17 ص]ـ
جزاك الله خيرا شيخنا الكريم.
كلام جميل ومفيد ونفع الله به.