تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وما نقلَه الطَّبَرِيُّ عن ابن عباس يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ حَمْلاً مُخْتَلِفًا، فَيُفْهَمُ مِنْ كَلامِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يُخْبِرَهُم عن بُنُودِ هذا المِيْثَاقِ، فَقَوْلُهُ: ?لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ? أَحَدُ بُنُودِهِ، وهذا المِيْثَاقُ يَتَكَوَّنُ مِنْ بُنُودٍ أُخْرَى، هي: ?وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ،? (البقرة: 83) وكَأَنَّ ابْنَ عَبّاسٍ يُرِيْدَ تَفْسِيْرَ المِيْثَاقِ وذِكْرَ بُنُودِهِ، وأَرَى أَنَّ هذه الرّوَايَةَ تُفَسِّرُ لَنَا قَوْلَ مَنْ ذَهَبَ إِلى أَنّ هذه جُمْلَةٌ تَفْسِيْرِيَّةٌ، وقَدَّرَ (أَنْ) التَّفْسِيْرِيَّةَ.

ومِمّا يُؤَيِّدُ ذلكَ مَا نُقِلَ عَنْ قَتَادَةَ في الدُّرِّ المَنْثُورِ، قَالَ السُّيُوطِيُّ: "أَخْرَجَ عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ في قَوْلِهِ: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ،? قَالَ: مِيْثَاقٌ أَخَذَهُ اللهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيْلَ، فاسْمَعُوا عَلَى مَا أُخِذَ مِيْثَاقُ القَوْمِ: ?لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً،?" ولا أَرَاكَ تَفْهَمُ مِنْ هذا إِلاّ تَفْسِيْرًا للمِيْثَاقِ، وبَيَانًا لِبُنُودِه.

أَمّا قَوْلُ قُطْرُبٍ والمُبَرّدِ إِنّه في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الحَالِيَّةِ فهم يُقَدِّرُونَ في هذا الرّأيِ (أنْ) المَصْدَرِيَّةَ، وهذا مَا يَدْعَمُ رَأيَ الأَخْفَشِ في تَقْدِيْرِ (أَنْ) خِلافًا للبَصْرِيّيْنَ، أَمّا مَحَلُّ الجُمْلَةِ فَأَمْرٌ آخَرُ، فَمِنْهُم مَنْ يَفْهَمُ البَدَلِيَّةَ، ومنْهُم مَنْ يَرَى الحَالِيَّةَ، وهذا لا يَجُوزُ في الصِّنَاعَةِ النَّحْوِيَّةِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو حَيَّان.

أَمّا رَأيُ سِيْبَوَيْهِ فَهو مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ دَلالَةَ (المِيْثَاقِ) هي دَلالَةُ القَسَمِ، قَالَ الطَّبَرِيُّ: "وقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي البَصْرَةِ يَقُولُ: مَعْنى قَوْلِهِ: ?وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ? حِكَايَةٌ، كَأَنَّكَ قُلْتَ: اسْتَحْلَفْنَاهُم لا تَعْبُدُونَ، أَيْ: قُلْنا لَهُم: واللهِ لا تَعْبُدُونُ، وقَالُوا: واللهِ لا يَعْبُدُونَ،" وتَابَعَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وأَجْرَى جُمْلَةً من الأَلْفَاظِ مَجْرَى القَسَمِ، منها: (نَشهَدُ)، و (خِفْتُ)، و (عَاهَدْتُ)، و (وَاثَقْتُ).

ولَمْ أَجِدْ في جَامِعِ البَيانِ رِوَايَةً تَعْضُدُ رَأيَهُ في دَلالَةِ (المِيْثَاقِ)، ولِكنّي وَجَدْتُ رِوَايَةً عَن ابنِ عَبّاسٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّه جَعَلَ المِيْثَاقَ كالقَسَمِ، قَالَ في دَقَائِقِ التَّفْسِيْرِ: "قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ: مَا بَعَثَ اللهُ نُبِيًّا إِلا أَخَذَ عَلَيْهِ المِيْثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمّدٌ وهو حَيٌّ لَيُؤْمِنَنّ بِهِ، ولَيَنْصُرنَّهُ، وأَمَرَه أَنْ يَأْخُذَ المِيْثاقَ عَلَى أُمَّتِه: لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهم أَحْيَاءٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَيَنْصُرُنَّهُ."

ولا أَرَى أَنَّ كُلَّ (وَاثَقْتُ)، و (عَاهَدْتُ)، و (أَشْهَدُ)، و (خِفْتُ) تَقُومُ مَقَامَ القَسَمِ، والأَصْلُ في هذه الأفْعَالِ أَنْ تتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ بِحَرْفِ الجَرِّ فتَقُولُ: عَاهَدْتُ زَيْدًا عَلَى أنْ يَفْعَلَ كَذا، وكَذلكَ (وَاثَقْت)، و (أَشْهَدُ)، وأَمّا (خِفْتُ) فالأَصْلُ فِيْهِ أَنْ لا يَدُلَّ عَلَى قَسَمٍ، ولكنَّهُ يَخْرجُ هو وغَيْرُه من الأَفْعَالِ للدَّلالَةِ عَلَى أَغْرَاضٍ مُخْتلفَةٍ، ولا أَراكَ تَفهَمُ مَعْنى القَسَمِ أو غَيْرَهُ من المَعَانِي إِلاّ إِذا وُجِدَتْ قَرِيْنَةٌ تَدُلُّ على ذلك المَعْنى.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير