وذلك أن المفسر لا يتوصل إلى (الراجح) من الأقوال من خلال تلك القواعد , وإنما من خلال اجتهاده في أيّ تلك القواعد يقدم ويختار , فالأقوال موجودة قبل الترجيح , وهي مبنية على أصول وأدلة في التفسير (سُمِّيَت في الكتاب قواعد) , وهناك يجتهد المفسر في الترجيح بين تلك < القواعد >.
فابن جرير مثلاً رجَّح قول ابن عباس لأنه موافقٌ للسياق (قاعدة السياق .. ) , واختاره على قول أبي هريرة المبني على الاستشهاد بالسنة (قاعدة التفسير بالسنة .. ) , وذلك في آيةٍ ما.
وفي آية أخرى اختار القول المبني على الاستشهاد بالسنة , وقدمه على القول الآخذ بالسياق. هذا مثال.
فالقاعدة ليست ما رجَّح هنا أو هناك , وإنما الذي رجَّح: اجتهاد المفسر في تقديم إحدى القاعدتين , وهذا كثيرً جداً , بل هو ما تراه في الاختلاف المُحَقَّق في التفسير , فكلا القولين معتمد على أصول معتبرة في التفسير , ومعرفة تلك < القواعد > لا يكفي في اختيارك وترجيحك , وإنما الذي تحتاجه أن تعرف كيف ترجِّح بينها , وقبل ذلك كيف رَجَّح بينها ابن جرير كما في المثال.
ولا يكفي أن يذكر المؤلف هذا الواقع الضخم من تعارض القواعد المتحقق في التفسير = يذكره في مسألة في أوائل الكتاب بعنوان: (تنازعُ القواعدِ المثالَ الواحدَ)؛ فإنه من الكثرة والوفرة بحيث لا يكفي في بيانه أقلّ من كتاب.
الرابعة: هذا الحال من التعارض الحقيقي الكثير بين تلك < القواعد > يثير سؤالاً حول جدوى كونها قاعدة , والمعهود في القواعد أنها كالأدلة تتظافر ولا تتعارض تعارضاً حقيقياً.
وأخيراً:
إننا حين نزيل صفة < القاعدة > عن صنيع المفسرين في الترجيح سنتوصل إلى أصولٍ تجمعهم في طرائق الترجيح؛ هي في الحقيقة ما تستحق الاجتهاد في تلمسها وإبرازها , ولا يغضُّ هذا من جهد أحد , فكُلٌّ مأجور بإذن الله.
(وما أجمل صنيع الفقيه ابن جُزَيّ رحمه الله , حين ذكر جملة من تلك < القواعد > في مقدمة تفسيره وسمَّاها: (وجوه الترجيح) , وهو -في علمي- أقدم من وصفها وجمع جُملةً وافرةً منها , وعِبارته هذه تسميةٌ دقيقة بالنظر إلى الغرض منها في استعمال المفسر , ولأن بعضها لا يرتقي إلى أن يكون قاعدة بمعناها الاصطلاحي , أو ليس لفظه بمسبوك في صورة قاعدة مع صحته ووضوحه) هذا ما قلته في كتاب: استدراكات السلف في التفسير. في مبحث: أثر الاستدراكات على قواعد الترجيح في التفسير , ص:433.
وبالله تعالى التوفيق.
وهذا أصل الموضوع هنا ( http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=16285)