هذا كلام وقع معترضاً بين محاجة أهل الكتاب والمشركين في أمر القبلة، نزل بسبب تردد واضطراب بين المسلمين في أمر السعي بين الصفا والمروة وذلك عام حجة الوداع، كما جاء في حديث عائشة، فهذه الآية نزلت بعد الآيات التي قبلها وبعد الآيات التي نقرؤها بعدَها، لأن الحج لم يكن قد فُرِض، وهي من الآيات التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإلحاقها ببعض السُّوَر التي نزلت قبل نزولها بمدة، والمناسبةُ بينها وبين ما قبلها هو أن العدول عن السعي بين الصفا والمروة يشبه فعل من عبر عنهم بالسفهاء من القبلة وإنكار العدول عن استقبال بيت المقدس، فموقع هذه الآية بعد إلحاقها بهذا المكان موقعُ الاعتراض في أثناء الاعتراض.
قال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات ... ) ثم بعدها بآيات قال تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ... ) فلماذا جاء الإخبار عن الكتمان مرتين؟
آية: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} نزلت في علماء اليهود الذين كتموا دلائل صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصفاته وصفات دينه الموجودة في التوراة وكتمهم آية الرجم، وفي قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزل من الكتاب ... } عود إلى محاجَّة أهل الكتاب لاَحِقٌ به بمناسبة قوله: {إنما حرم عليكم الميتة والدم} تحذيراً للمسلمين مما أحدثه اليهود في دينهم من تحريم بعض ما أحل الله لهم وتحليل بعض ما حرم الله عليهم.
في قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ... ) لماذا لم يجئ حكم الوصية مبتدأ بالنداء للمؤمنين كما جاء في أحكام القصاص والصيام (يأيها الذين كتب عليكم القصاص في القتلى) (يايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام)؟
لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام، فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم.
ما مناسبة ذكر رفع الجناح عن التجارة بين آيات الحج؟ لأنها جاءت بعد النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه، فنقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي، إبطالاً لما كان عليه المشركون، إذ كانوا يرون التجارة للمُحْرم بالحج حراماً.
قوله تعالى: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * في الدنيا والآخرة) بمَ يتعلق الجار والمجرور؟
قوله {في الدنيا والآخرة} يتعلق بـ (تتفكرون) لا بـ (يبيِّن)، لأن البيان واقع في الدنيا فقط. والمعنى ليحصل لكم فكر -أي علم- في شؤون الدنيا والآخرة، وما سوى هذا تكلف.
قال تعالى: (وعلى المولود له رزقهن ... ) لماذا لم يقل: (وعلى الوالد ... )؟
عبر عن الوالد بالمولود له، إيماء إلى أنه الحقيق بهذا الحكم؛ لأن منافع الولد منجرة إليه، وهو لاحق به ومعتز به في القبيلة حسب مصطلح الأمم، فهو الأجدر بإعاشته، وتقويم وسائلها.
قال تعالى: (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) وقال في الموضع الثاني: (فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهم من معروف) فلماذا اختلف التعبير في الموضعين؟
لم أجد حتى الآن تفسيرا لهذا، على أن ابن عاشور قد قال: " قال ابن عرفة في تفسيره: وتنكير (معروف) هنا وتعريفه في الآية المتقدمة، لأن هذه الآية نزلت قبل الأخرى، فصار هنالك معهوداً" لكنه تعقب هذا بقوله: "وأحسب هذا غير مستقيم، وأن التعريف تعريف الجنس، وهو والنكرة سواء" فلم يشر إلى تعليل، وإنما اكتفى بالتعقب.
قوله تعالى: (إلا من اغترف غرفة بيده) مستثنى من أي شيء؟ وكيف يكون ترتيب الكلام؟
الاستثناء في قوله: {إلا من اغترف غرفة بيده} من قوله: {فمن شرب منه} لأنه من الشاربين، وإنما أخره عن هذه الجملة، وأتى به بعد جملة {ومن لم يطعمه} ليقع بعد الجملة التي فيها المستثنى منه مع الجملة المؤكدة لها؛ لأن التأكيد شديد الاتصال بالمؤكد، وقد علم أن الاستثناء راجع إلى منطوق الأولى ومفهوم الثانية، فإن مفهوم (من لم يطعمه فإنه منّي) أن من طعمه ليس منه، ليعلم السامعون أن المغترف غرفة بيده هو كمن لم يشرب منه شيئاً، وأنه ليس دون من لم يشرب في الولاء والقرب، وليس هو قسماً واسطة. والمقصود من هذا الاستثناء الرخصة للمضطر في بلال ريقه.
فائدة: نرى أن آيات هذه السورة قد جاءت بأحكام متنوعة كالقصاص، والوصية، والصيام، وأكل المال بالباطل، والأهلة، والقتال، والحج، والخمر، واليتامى، وأحكام النساء، والطلاق ... الخ من الأحكام والتشريعات الجليلة، وقد يتساءل الواحد منا عندما يجد آية تتحدث في حكم أو معنى لا يظهر له ارتباط أو مناسبة بالكلام قبله أو بعده، فيسأل عن ارتباط الكلام بعضه ببعض، ويتطلب له المناسبة، ولكن هذا لا يتأتى دائما، بل كثير منه يدخله التكلف، وقد ذكر ابن عاشور كلاما جميلا في هذا تحسن الإشارة إليه ليستحضره القارئ عندما يجد مثل هذا الأمر، يقول: "الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن لا تلزم له قوة ارتباط، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض، ولكنه كتاب تذكير وموعظة، فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدى الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها، فقد يجمع به الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأموراً بإلحاقها بموضع معين من إحدى سور القرآن كما تقدم في المقدمة الثامنة، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني، أو في انسجام نظم الكلام".
¥