ولم لا يتدبر؟ أليس يرى القارئ للآية المذكورة مثلا، مشهدَ نزول الماء من السماء؟ أليس يرى بعينيه آثار الغيث كلَّ ربيع في الروابي، والجنات، والبساتين، وأشكال الفاكهة والثمار، والجداول، والأنهار، والأطيار، بل في الحياة كلها؟ أليس ينظر إلى الجبال الشاهقة المنتصبة بهيئتها العظيمة بين يديه؟ أليس يرى مسالكها من بعيد تتلوى حولها خطوطاً حمراء وبيضاء على حسب لون الصخور والتربة الناسجة لها؟ أليس يعجب من مشهد الحجارة الصماء السوداء، الراسية على قمم هذه الجبال أو تلك؟
فكل من أبصر عظمة الخالق في عظمة المخلوق، واتخذ آثار الصنعة مسلكا يسير به إلى معرفة الله فهو متدبر وهو متفكر! وهذا أمر ليس حكراً على المفسرين ولا على الجيولوجيين، وإن كان لهؤلاء وأولئك من العلم ما يجعلهم يتفوقون ويسبقون به غيرهم، إذا أخلصوا النظر لله! نعم، ولكن الله قد أتاح لكل ذي عينين، وأذنين، وقلب حي، أن يسلك إلى ربه عبر ما يسر الله له من التدبر والتفكر .. ولربما سبق القنفذُ الفرس! وإنما ذلك على حسب صفاء القلب وإخلاص السير!
وأنت ترى أن الله – جل جلاله - أمر الكفار بالتدبر لكتابه! كما في قوله تعالى: ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً? (النساء: 82) وقال سبحانه: ?أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا? (محمد: 24) فإذا كان الكافر – وهو المجرد قطعا من كل قواعد التفسير ومناهجه – مأموراً بالتدبر فالمسلم أولى وأحرى!
إن المسلم - أي مسلم – إنما عليه أن يصطحب مختصراً صغيراً من كتب التفسير، كتفسير الجلالين مثلا، أو أحد مختصرات ابن كثير، أو غيرهما؛ وذلك فقط حتى يضبط بوصلة الاتجاه العام لمعنى الآيات، ثم يشرع آنئذ في التدبر للقرآن، ولا حرج. لأن التدبر لكتاب الله لا ينبني عليه حلال ولا حرام، ولا تصدر عنه فتوى ولا قضاء! وإنما هو مسلك روحي يقود القلب إلى التوبة والإنابة، وإلى مجاهدة النفس من أجل الترقي بمراتب العلم بالله!
أما صناعة التفسير والاستنباط فهذا هو الذي يخص فئة محصورة من الناس وهم أهل الاجتهاد من العلماء، ممن يفتون ويقررون في القضايا والنوازل. وفي ذلك نزل قوله تعالى: ?وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً? (النساء: 83) وقوله سبحانه: ?وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ? (التوبة: 122). فذاك علم الخاصة.
وأما التدبر – بما هو تذكر واعتبار - فهو لعامة المسلمين. قال تعالى: ?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ? (القمر: 17).
وعليه؛ فالمفسر عالم وفقيه، يقوم ببيان الحقائق القرآنية والأحكام الشرعية، والتصدر للفتوى. بينما المتدبر مجرد متعظ وواعظ. وقد يجمع الله للمرء بين الخيرين. والعالم الحق لا يصح له إلا ذلك! ومن ثم جاز لنا أن نقول: "كُلُّ عالِمٍ أو كلُّ مفسِّرٍ متدبرٌ، وليس كل متدبرٍ مفسِّراً! " فتأمل .. !
إن الذي يمتنع عن تدبر القرآن أو ينهى غيره عن ذلك؛ بدعوى أن التدبر أمر خاص بعلماء التفسير، إنما هو جاهل بهذا الفرق الجوهري الكبير بين التفسير والتدبر .. وأخشى أن يكون الشيطان قد لبَّس عليه تلبيساً؛ ليحرمه هو في نفسه من نور القرآن! أو يجعله أداة لقطع الطريق أمام السائرين إلى الله!
إن التدبر للقرآن مطلوب من العالِم، ومن المهندس، والطبيب، والأستاذ، والفلاح، والحداد، والنجار، والتاجر ... إلخ! بل إن التدبر مطلوب من الكافر الأعجمي، إنجليزيا كان أو فرنسيا أو صينيا، أو ما كان! نعم! نعم! لكن فقط بعد أن تترجم له المعاني العامة للآيات!
¥