وقد أمده البحث اللساني ـ خصوصاً الذي أضافه يسجربر إلى النظرية الأنثربولوجية اللغوية ـ ما يجعل تطبيق النظرية على النصوص فعالة بدلا من اللغة الشفاهية والأمثال والقصص والمرويات الأسطورية، وعلى الرغم من أن إيزوتسو لم يفصل مرجعية أدواته المنهجية، إلا أن دارسي اللسانيات بإمكانهم أن يكتشفوا ذلك بسهولة؛ إذ تعد المنهجية التزامنية ( Synchronic) فكرة لسانية بامتياز، فقد تأسست نشأة علم اللسانيات انطلاقاً منها، بعد أن كانت الدراسات الفيلولوجية تنحو منحى تطورياً تاريخياً ( Diachronic)، وبالتأكيد استمد إيزوتسو هذه الفكرة الرئيسية من يسبرجر الذي عرف بتأثره بسوسير أساساً.
كما أن مفهوم "البنية" - الذي يشكل مفهوماً مفتاحياً لدراسات إيزوتسو - ينتمي أيضاً إلى اللسانيات، بالإضافة إلى ذلك تتضح المرجعية اللسانية في "المعنى الأساسي" الذي اتخذ أداة لفهم كيف تجري التحولات الدلالية في إطار منظومة محددة.
إن اختيارات إيزوتسو المنهجية ترجع في الواقع إلى أصول فلسفية، فالأساس الذي دفع إيزوتسو للدراسات القرآنية كان أساساً فلسفياً بالدرجة الأولى، وطبيعة الوعي الفلسفي هي النزوع الكلي للمفاهيم وعالم المعنى، فاهتمام إيزوتسو في هذ النوع من الدراسات انحصر كلياً بالمجال التصوري العقدي والمجال التصوري الأخلاقي، وعلى العكس من المسار المنطقي للدراسات الفلسفية التي تنحدر من نطاق العلة الأولى وتداعياتها إلى الدرس الأخلاقي، ييدأ إيزوتسو رحلته من الدرس الأخلاقي القرآني إلى المجال التصوري العقدي الكلي الذي يشكل أساساً للدرس الأخلاقي، فمن المعلوم أنه ألف أولاً (بنية المصطلحات الأخلاقية في القرآن) عام 1959 ثم ألف تالياً كتابه "الله والإنسان" عام 1964، وعلى أية يفصح لإيزوتسو عن اهتمامه الفلسفي في كل الدراستين.
هكذا تتلحض المرجعية منظور فلسفي يتقاطع بالبحث الأنثربولوجي الثقافي، يفضي إلى أدوات منهجية لسانية.
بالتأكيد لم تكن هذه العملية آلية؛ إذ الانتقال من مجال إلى آخر كان عبر وسيط (يسبرجر) يجمع المرجعيات الثلاثة ذاتها (لا نعرف من خلال الدراستين كيف اكتشفه)، لكن الشيء المهم الذي عمله إيزوتسو هو أمران:
الأول أن قام بتبيئة الأدوات المنهجية وركبها لتقرأ النص القرآني بوصفها خطاباً ثقافياً مغلقاً (تاماً)، الأمر الذي ساعده على قراءة نصية كانت أدواتها قد بدأت بالظهور أثناء تأليفه، إلا أنه لم يكتب له ـ على ما يبدو ـ الاطلاع عليها.
الأمر الثاني أنه استطاع الحفاظ على النص ذاته بأقل قدر من التدخل لفرض مفاهيم مسبقة، وذلك على الرغم من أن نظرية ارتباط الفكر بالثقافة تفضي إلى ما يسمى بالحتمية اللغوية أي بمعنى من المعاني الانحباس في إطار مفهومي ثقافي بسبب اللغة، إذ لا تفكير إلا من خلالها! وعلى الرغم من أن إيزوتسو لم يفرق بشكل واضح بين ارتباط اللغة بالثقافة وارتباط اللغة بالفكر، إلا أنه استطاع عبر الدراسة المقارنة واكتشاف آليات التحويل في المنظومات المفاهيمية الخروج من التداعيات العنصرية والأيديولوجية لنظرية يسجربر.
ـ[محمد العبادي]ــــــــ[30 Oct 2009, 10:01 م]ـ
جزاكم الله خيرا أجمعين ..
وسبحان الله! لا يزال القرآن الكريم معينا لا ينضب، تتفتق عنه العقول الصحيحة بهدايات وتوجيهات لا تنتهي، وما هذا البحث وهذا الباحث إلا نموذج لهذا.
كما إن عمله يعد نموذجا للدراسات القرآنية الجادة، فبغض النظر عما يمكن أن يقع في نتائجه من هنات، فهو عمل يستحق الإشادة والتنويه لما بذل فيه من جهد كبير وتنقيب مضنٍ وسط دراسات كثيرة هزيلة لم تثمر علما ولا عملا، ولم تستثر همة.
للتحميل: كتاب (الله والإنسان في القرآن) للكاتب الياباني توشيهيكو إيزوتسو ( http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=14178)
ـ[د. عبد الله الجيوسي]ــــــــ[30 Oct 2009, 10:05 م]ـ
د. عبد الرحمن الحاج يسعدني التواصل معك .. اود سؤالك عن أوراق المؤتمر الذي أشرتم إليه هل بالامكان الحصول عليها مطبوعة او نسخة الكترونية؟
ـ[عبدالرحمن الحاج]ــــــــ[31 Oct 2009, 08:35 ص]ـ
الصديق العزيز د. عبد الله الجيوسي، يسرني التواصل معكم أيضاً، للأسف أوراق المؤتمر الدولي الخاص بـ "توشيهيكو إيزوتسو" الذي عقد في ماليزيا غير مطبوعة، ولسوء الحظ أنها ليست متوفرة لدي، وألفت انتباهكم إلى أن معظمها باللغة الإنكليزية.
ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[01 Nov 2009, 10:49 ص]ـ
شكراً للصديق العزيز عبدالرحمن الحاج على هذه الإضافة المفيدة حول هذه الشخصية العلمية المغمورة.
وأشكر أخي محمد العبادي على إضافته لرابط الكتاب فلم أرها إلا من خلال تنبيهك، فجزى الله الأستاذ محمد بن جماعة على وضعه. وهي ترجمة أخرى للكتاب صدرت عن (المنظمة العربية للترجمة) وهي جهة معتمدة في الترجمة كما أخبرني بذلك الدكتور عبدالرحمن الحاج وفقه الله.
¥