إذ كانوا يقرؤونه (ينباع) بالمدَ فيستقيم وهو في الأصل (ينبع). أما اختلاف حركة القافية (الإقواء) فيبدو لي أن السبب في وقوعه كثيراً، على اعتبار أن الرواة أصلحت ما استطاعت، هو إنهم كانوا يقفون على نهايات الأبيات فتسكن كلها، فالشاعر لا يعبأ كثيراً بالقافية لتعوّد الذوق عليها، مثلما يقف قارئ القران في التجويد عند نهايات الآيات مختلفة الحركات كما في (أحدْ، الصمدْ، يلدْ، يولدْ، أحدْ)، بينما إذا حرِّكت تكون (أحدُ، الصمدُ، يلدْ، يولدْ، أحدُ)،. فيكون التركيز على حرف الروي لا على حركته، وأكد ذلك ابن منظور بقوله ان قراءة الآية " وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا" (12) بالوقف وترك الوصل، لان رؤوس الآيات عندهم فواصل، ورؤوس الآي وفواصلها يجري فيها ما يجري في أواخر الأبيات، لان العرب خوطبوا بما يعقلونه في الكلام المؤلف (13).
وحين جاء العصر العباسي عمل الرواة على إصلاح موسيقى الشعر الجاهلي، وقد اعترف الأصمعي بان الرواة كانوا يصلحون الأشعار (14). أما الأبيات التي تستعصي على الإصلاح فإنهم يجدون لها مخرجاً مثل بيت عنترة السابق فإنهم ظلوا يقرؤونه (ينباع) لأنه لا يستقيم وزناً إلا بهذا؛ قال الزوزني: "أراد ينبع فاشبع الفتحة لإقامة الوزن فتولدت من إشباعها ألف … ومثله قولنا آمين والأصل أمين فأشبعت الفتحة فتولدت من إشباعها ألف يدلل عليه انه ليس في كلام العرب اسم جاء على فاعيل… ومنهم من جعله ينفعل من البوع وهو طي المسافة" (15)، وكل هذه لم يفكر بها عنترة وإنما هي تخريجات عباسية لإصلاح الموقف. وقرؤوا قول النابغة:
زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغرابُ الأسودُ
قراءة أخرى هي (وبذاك خبرنا الغداف الاسودي) على الصفة لان الصفات يزاد عليها ياء النسب (16)، وذلك للحصول على حرف روي مكسور. ومثله قول النابغة أيضا:
تبدو كواكبه والشمس طالعة لا النور نور ولا الإظلام إظلامُ
فحرف الروي مرفوع وسائر الأبيات حرف رويها مكسور؛ قال البطليوسي:" ومن تجنب الإكفاء روي (لا النور نور ولا ليل كإظلامِ) (17)، وجاءت في معلقة امرئ القيس (10) أبيات ساكنة حرف الروي لان القافية (مضارع مجزوم أو فعل أمر) مثل (وتجمّلْ، فانزلْ، لم يحوّلْ ... )، وفي معلقة طرفة (15)، فكسروا حرف الروي على قاعدة أن الكسر اقرب الحركات إلى الحرف الساكن. ومنه قول طرفة:
أرى العيش كنزاً ناقصاً كلَّ ليلة وما تنقصِ الأيامُ والدهرُ ينفدِ (18)
(فينفد) حقها الجزم لأنها جواب الشرط، فكسرت الدال على هذه القاعدة. ولا نعدم أشعاراً عباسية على هذه الشاكلة بل إننا نجد مثلها في شعر نزار قباني وغيره من المعاصرين.
دواعي وضع العروض:
فلماذا وضع الخليل بن احمد العروض؛ علم أوزان الشعر العربي؟ قال ابن فارس:" إن هذين العلمين؛ النحو والعروض، كانا قديماً وأتت عليهما الأيام، وقلاّ في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان (19) " يريد أبا الأسود الدؤلي والخليل.
فإذا كان وضع النحو بسبب تفشي اللحن والاختلاط العنيف بين العرب والعجم بما افسد السليقة العربية وجعل العرب أنفسهم محتاجين إلى قواعده، وهو سبب وجيه، فان الحال مع وضع العروض مختلفة تماماً؛ لان العروض لم يوضع لعامة الناس بل خاصتهم؛ وهم الشعراء وهؤلاء مستغنون بالطبع عن تعلمه، بل إن الشاعر يوصى بعدم تعلم العروض، سيما وان شعر العصر الأموي شهد النضج التام في الوزن بعد أن " استقل عن الموسيقى شيئاً فشيئاً وقل فيه تأثير الغناء حتى صار ينشد إنشاداً" (20).
وقد وضح ذلك قول قدامة بن جعفر الشامل بحق علم العروض: " علما الوزن والقافية وان خصا الشعر وحده، فليست الضرورة داعية إليهما لسهولة وجودهما في طباع أكثر الناس من غير تعلم، ومما يدل على ذلك أن جميع الشعر الجيد المستشهد به إنما هو لمن كان قبل وضع الكتب في العروض والقوافي. ولو كانت الضرورة إلى ذلك داعية لكان جميع هذا الشعر فاسداً أو أكثره، ثم ما نرى أيضاً من استغناء الناس عن هذا العلم بعد واضعيه إلى هذا الوقت، فان من يعلمه ومن لا يعلمه ليس يعول في شعر إذا أراد قوله الا على ذوقه دون الرجوع إليه، فلا يتوكد عند الذي يعلمه صحة ذوق ما تزاحف منه بان يعرض عليه. فكان هذا العلم مما يقال فيه إن الجهل به غير ضائر. وما كانت هذه حاله، فليست تدعو إليه ضرورة" (21).
¥