وقد أفاد علم العروض نظرياً فهو مكمل ثقافي يحتاجه الدارسون والباحثون والعلماء لضبط الأشعار والإحاطة بها علماً، ولم يفد عملياً؛ فالشعراء وجدوا به عائقاً أكثر منه مساعداً. وهو علم معروف في الأمم الأخرى ولابد من وضع مماثل له في الشعر العربي، لذا قام بمتنه الخليل، وقد قيل انه استفاد من العروض السنسكريتي أو البابلي أو السرياني وغير ذلك (22). ومهما قيل فان ولادة العلوم في العصر العباسي تحتم أن يكون العروض من بينها.
وكان وضع الخليل بن احمد الفراهيدي لعلم العروض استجابة لرغبة المؤسسة المحافظة للسيطرة على التجديد الموسيقي للشعر العباسي، ووضع حد صارم لتسرب أو استحداث أوزان جديدة لا تمت إلى الأوزان العربية (الجاهلية) بصلة. أما ما شاع من أوزان جديدة ولا سبيل إلى قطعه أو منعه فان علم العروض استوعبه بطريقة التقليب فأصبح عربيا قد مهر بمهر الجاهليين ولعل الخليل في تطبيقه فكرة الدوائر ظن أو أظن أن كل وزن ممكن أن يستخرج من تقليبات البحور الجاهلية الأساسية،التي جعلها على رأس كل دائرة، هو في حيز الأوزان العربية وان لم تكتب عليه العرب. والذي لا تستوعبه الدوائر العربية فلن يكون عربياً، وسيكون الشعر المكتوب عليه محارباً، وهو رأي المؤسسة المحافظة التي ترى هذا ويرى الطرف الآخر العكس وهو ما أشار إليه الزمخشري في كتابه (القسطاس في علم العروض) بقوله: " انَّ بناء الشعر العربي على الوزن المُخترعِ، الخارج عن بحور شعر العرب، لا يَقدحُ في كونه شعراً عندَ بعضهم. وبعضُهم أبى ذلك، وزعم أنه لا يكون شعراً حتى يُحامَى فيه وزن من أوزانهم" (23). والظاهر إن الخليل رأس الفئة الثانية.
الابتكار في الأوزان والقوافي:
وكان اتساع دائرة معاني وأفكار الشعر العباسي جعلهم يبحثون عن أوزان جديدة تستوعب تجاربهم الشعرية فاستوردوا وولدوا واستحدثوا هم أيضا وكتبوا على مجزوءات البحور التي لم يكتب عليها الجاهليون، وبالغوا حتى كتبوا على المشطور والمنهوك، بل إن بعضهم أقام القصيدة على تفعيلة واحدة كقول سلم الخاسر:
موسى المطر غيث بكرْ
كم اعتسرْ ثم ايتسرْ
ثم انهمرْ ألوى المررْ
وكم قدرْ ثم غفرْ (24)
ولعل حس التجديد بدأ في نهاية الدولة الأموية فاستحدث الوليد بن يزيد بحر المجتث، ومنه قوله:
إني سمعتُ بليلٍ ورا المصلى برنّه
خرجتُ اسحبُ ذيلي أقول ما شأنهنه
إذا بنات هشامٍ يندبن والدهنه (25)
واخترع أبو العتاهية المتدارك الذي تبعه فيه المشارقة والمغاربة، وتردد المصادر أوزاناً أخرى له فهو " لسرعة وسهولة الشعر عليه يقول شعراً موزوناً يخرج به عن أعاريض الشعر وأوزان العرب" (26) ومنها قوله:
للمنونِ دائرات يدرن صرفها
هنَ ينتقيننا واحداً فواحداً
وقوله:
عتبُ ما لليالي خبريني وما لي
لا أراه إلا أتاني زائراً من ليالي
لو رآني صديقي رقَّ لي أو رثى لي
أو يراني عدوِّي لان من سوء حالي (27)
ويبدو أن المقتضب اخترعه أو جلبه أبو نواس. ورزين لقّب بالعروضي لأنه كتب اغلب أشعاره على أوزان ذات أعاريض جديدة، ولكن بقي من شعره قصيدة يقول فيها:
قربوا جمالَهُمُ للرحيل غدوةً أحبَّتك الأقربوكْ
خلفوك ثمَّ مضوا مدلجين مفرداً بهمِّكَ ما ودَّعوكْ
يا ابن سادة زهُرٍ كالنجومِ أفلح الذين هُمُ أنجبوكْ
يا ابن سهْلٍ الحَسَنَ المستغاثَ في الوغى إذا اضطرب الفكيكْ (28)
وكتب بهاء الدين زهير على وزن جديد اشتقه من الدوبيت:
يا من لعبت به شمول ما ألطف هذه الشمائلْ
نشوان يهزه دلالٌ كالغصن مع النسيم مائلْ
ما أطيب وقتنا وأهنى والعاذل غائبٌ وغافلْ (29)
والدوبيت يشبه المسمطة والمخمسة في قصره فهم لا ينظمون عليه أكثر من بيتين. وهو وزن فارسي خالص يدل على ذلك اسمه؛ فهو مكون من كلمتين (دو) وتعني اثنين، و (بيت) بمعناها العربي ومفتاحه النغمي (فعْلن متفاعلن فعولن فعلن) (30).
¥