تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومن العجائب أن الجابري في "نكبة ابن رشد" وتقديمه وشرحه على "تهافت التهافت" يتماهى في استحضار العامل السياسيّ في محن العلماء ونكباتِهم ومواقفهم من الأهواء والبدع والمحدثات ومنكرات الحكام وظلمهم وجورهم، وكأنَّ القسمة التحليليّة منحصرةٌ في العامل السياسيِّ فقط، ويرى كل تفسير عدا ذلك تفسيراً ناقصاً غير مستوف لحقيقة المشهد، فما الناس إلا أدواتٌ تُدار بإحكام من خلال حفنة من الساسة والحكّام، ولا رأي لأحد ولو كان من أعلم الناس وأكثرهم دهاءً وفطنة، ولا كأن أولئك العلماء كانوا من أغير الخلق على الشريعة وتحرّكهم أوامرها ويستجيبون لدواعيها، وبهم من الديانة والتعظيم لحرمات الله ما يمنعهم من الوقوف دون حِراك في وجه البدع المحدثة والأهواء الناشئة ولا يخافون في الله لومة لائم، وهذا التعميم الجائر للتفسيرات السياسية للمواقف والآراء واستدعائه بأثر رجعي هو من إنتاج المستشرقين وبضاعتِهم الفاسدة التي غصَّ بها الجابري.

وكم ينبعث في نفسي من الدهشة وأنا أراه يخالف طريقته بتعميم التحليل والمنهج وطرده في الماضي انطلاقاً من صحّة بعض صوره في الحاضر حين ينتقد كارل ماركس ومنهجه التعميمي المخترق لطبقات الزمان الماضي من خلال توليد فكرة حاضرة تصحُّ بعض صورها في نقد الرأسمالية قائلاً: "إذا كان تحليل ماركس للمجتمع الرأسمالي تحليلاً علميّاً صحيحاً فإن ذلك لا يلزم عنه ضرورة صحة تحليله للمراحل التاريخية السابقة للمجتمع الرأسمالي حتى في أوروبا نفسها"!

فاعجب غاية العجب لهذا الانتقاد الموضوعي من الجابري لماركس، وكيف عاد عليه الجابري بالإبطال في نظريّته الخاصة بأثر العوامل السياسيّة، والتي قام بنقلها معمّماً من بيئتها الحاضرة إلى المراحل التاريخية السابقة، بل وعدَّ غيرها من التحليلات قاصرة عن المطلوب وغير علميّة.

واقض له بغاية الاضطراب المنهجي وأنت تقرأ قوله: "نحن لا ننكر مجهودات كثير من المستشرقين الذين ساهموا في نشر وتحقيق عدد مهم جداً من كتب التراث العربي الإسلامي، والذين سلّطوا كثيراً من الأضواء على جوانبه، ولكن يجب أن نكون واعين في ذات الوقت بأن اهتمامهم بهذا التراث سواءً على مستوى التحقيق والنشر، أو على مستوى الدراسة والبحث لم يكن في أية حال من الأحوال ولا في أي وقت من الأوقات من أجلنا نحن العرب والمسلمين، بل كان دوماً من أجلهم هم .. يبقى بعد ذلك كله أن تاريخ الثقافة العربيّة بما في ذلك تاريخ الفلسفة في الإسلام لم يُكتب بعد، إن جميع ما كتب في هذا الموضوع هو إما تكرار لطريقة مفكرينا القدماء وإما استنساخ لطريقة المستشرقين، وبالتالي تبنٍّ لا واعٍ لأهدافِهم وإشكالياتِهم".

وإذا أردت أن تقف على حقيقة الاستنساخ لفكر المستشرقين وتبنّي أفكارهم وتشرّب مناهجهم – والتي يحذّر منها الجابري – فاقرأ كتابه "نكبة ابن رشد" وغيرها من مؤلفاته لترى كيف أنه كان ناقلاً ماهراً لتحليلاتهم وتابعاً منقاداً لأفكارهم.

فما أسرع ما تؤوب النفوس إلى ما نفرت منه وكرهته وصدت عنه!

وللجابري من التناقضات البيّنة والازدواجية الظاهرة في قضايا منهجيّة ما هو على طرف الثمام وحبل الذراع، وقد التقط منها جورج طرابيشي طرفاً صالحاً فأجاد وأوفى إلى الغاية وذلك في كتابه "إشكاليات العقل العربي" وللدكتور عبدالرزاق قسّوم في كتابه "مدارس الفكر العربي الإسلامي المعاصر" مقتنصات لطيفة منها.

ونصيحة الشيخ سلمان للباحثين بقراءة مراحل الرجل وتتبعها نصيحة عزيزة ثمينة تنمُّ عن إنصاف وعقل وحكمة، لكنّها تصحُّ فيما لو كان للرجل مراحل مرَّ بها أو أفكار تقلّب في أعطافها كما هو الحال في أبي الحسن الأشعري، وأبي حامد الغزالي من الغابرين، ورشيد رضا، وسيّد قطب، ومحمد عمارة من المعاصرين، غير أن الجابري بقي وفيّاً لمشروعه النقدي حتى مماته، فبه يفتخرُ ومعه عرفه الناس وإليه حاكموه، وتفسيره الذي كتبه وألّفه لا يصطدم بمنهجه المعرفيِّ أو يأتي عليه بالنقض، فهو منفكُّ الجهة – بحسب تعبيرات سادتنا من الأصوليين -.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير