تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والجابريُّ إن كان يوماً من الدهر ماركسيّاً أو اشتراكيّاً فإن ذلك كان فتنة العصر وبليّة الزمان، وهو بريق ساحر وداء وبيل لحق كثيراً من الناس وأطاح بهم في شركه ومنهم بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي، والماركسيّة إذّاك كانت توجهاً سياسيّاً وملاذاً اقتصاديّاً يتفقُ مع بداياتِ التحرّر والانعتاق من ربقة المحتل في العالم العربيِّ، فكثير من الدول العربية كانت ثوريّة الطابع، فانتحال الجابري لتلك الطريقة لم تكن انتحالاً عقديّاً (أيدلوجياً) بل كان بمثابة المُستراح السياسي الحزبيِّ بحسب مقتضيات العصر، لهذا انتقل أكثرهم عن الماركسيّة والاشتراكيّة إلى المناهج البديلة الأخرى وعادت أثراً بعد عينٍ، فلا يؤثر هذا في فكرة "التمرحل" التي يشير إليها الشيخ سلمان.

والشيخ يتراخى تارة فيختار القراءة الشمولية لفكر الشخص كما يفعل هنا مع الجابري، وينصح بتتبع مراحله وعدم الحكم عليه من مرحلة واحدة، أو اختزاله في فكرة محددة، ثم إنه تارة أخرى يترك هذه الطريقة ويتشدد غاية التشدّد فيختار الحكم على الشخص من مرحلة واحدة من مراحل حياته يختزل من خلالها نشاطه الفكري والحركي ويحكم حكماً عنيفاً بموجب ذلك.

فعلى أي جانبيك – يا حبيبنا أبا معاذ – تميلُ!

وثمة إشكال آخر في جواب الشيخ وهو تعويله على حُسن مقصد الجابري وصحّة نيّته، وهذا غير مؤثر في الحكم على تآليفه أو معارفه، فالنيّة والمقصد باب وما يتضمّنه التأليف والكتابة باب آخر، والذين ردّوا من أهل العلم على الجابري وكشفوا خطورة منهجه إنّما حملهم على ذلك الانتصار لشرع الله وحده، والغيرة على الإسلام، والذب عن طريقة العلماء الربانيين ومناهجهم الأصيلة، فإن كان "حُسن المقصد" و"سلامة النيّة" هما المناط للحكم على الأفراد وإن شطّت آراؤهم وتناءتْ مذاهبهم فإن لهؤلاء مقاصد أسمى وأعلى من مقصد الجابري، وهم أقرب للإسلام منه وأكثر غيرة وأصوب طريقة وأولى بالاعتبار، وإن كان المعوّل على العلم والمعرفة فقد كشف أولئك - بعلم وفهم ونظر ثاقب واطلاع تام واف على جميع مؤلفاته وكتبه - عن سوءة الجابري في كتاباته وقصده إلى الشريعة بالتنقّص والتبديل والتطوير والإلغاء، فلم يكن حكمهم عليه انطباعياً أو مرتجلاً.

فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون؟

وإحقاقاً للحقِّ فإن الجابري كان مشغولاً في بعض ما كتبه بقضيّة النهضة وباحثاً ناقداً في إشكاليات التراجع المدني في العالم العربيِّ، غير أنّه لم يأتِ بيوت أمّته من أبوابها ولا استعان بأدواتها المنهجيّة أو طبّق مقدماتها المعتبرة، بل راح يلتمس العافية والبرء في مناهج أعداء الملّة والدّين، فأراد أن يُطبَّ زكاماً عارضاً فأحدث جذاماً راسخاً.

ثمَّ إن هذا الهمَّ والباعثَ شاركه فيه عامّة المؤلفين الذين خاضوا لجّة هذا النوع من التأليف، وكتبوا فيه كما كتب الجابري وإن تعددت المقدمات والأدوات والأساليب والحِجاج وشطّت الدور وتناءت الأمصار وتباينت تبعاً لذلك المناهجُ والنتائجُ.

وللمنتسبين إلى العلم الشرعيِّ وحاملي مشاعل الهدى والنور من العلماء والدعاة والمفكّرين كتاباتٌ كثيرة في هذا المجال وبحثٌ ونظرٌ وتأليفٌ جمعوا فيه بين الوعي بمشكلات العصر الحاضر وبين قدْر الله حقَّ قدره والتوقير لجناب الشرع والتزام أوامره وتعظيم نواهيه والخضوع لمناهج أئمة العلم وموازينهم، وهم أولى من يُحال إليهم الأمر ويُناط بهم الفصل فيه وتُربط به قلوب الباحثين عن الحق، ومن لعمري ينسى: رشيد رضا، وأبا الأعلى المودودي، وأبا الحسن الندوي، ومالك بن نبي، وسيد قطب، وأخوه محمد، والشيخ محمد الغزالي، والدكاترة عبدالله النفيسي، وسفر الحوالي، وعماد الدين خليل، وعبدالكريم بكّار، ومحمد العوضي، وحاكم المطيري، وآخرين، وبعضهم أفضل من بعض وهم درجاتٌ ومنازلُ.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير