وقد جاءت آثار عن الصحابة رضي الله عنهم تدل على أن رضاع الكبير لا يؤثر، فمن ذلك:
1 - ما جاء عن أبي عطية الوادعي قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إنها كانت معي امرأتي فحُصر لبنها في ثديها فجعلت أمصه ثم أمجُّه فأتيت أبا موسى فسألته، فقال: حرمت عليك. قال: فقام وقمنا معه حتى انتهى إلى أبي موسى فقال: ما أفتيت هذا؟ فأخبره بالذي أفتاه فقال ابن مسعود، وأخذ بيد الرجل: أرضيعاً ترى هذا؟ إنما الرضاع ما أنبت اللحم والدم، فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما كان هذا الحَبْر بين أظهركم. رواه عبد الرزاق في المصنف (7/ 463 رقم13895).
ورواه أبو داود (2059) عن ابن مسعود بلفظ: (لا رضاع إلا ما شد العظم وأنبت اللحم. فقال أبو موسى: لا تسألونا وهذا الحَبْر فيكم) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
2 - وروى مالك في الموطأ (2/ 603) عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنه قال: (لا رضاعة إلا لمن أُرضع في الصغر، ولا رضاعة لكبير).
3 - وروى مالك أيضا في الموطأ عن عبد الله بن دينار أنه قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر وأنا معه عند دار القضاء يسأله عن رضاعة الكبير، فقال عبد الله بن عمر: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني لي وليدة [جارية] وكنت أطؤها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها، فدخلت عليها فقالت: دونك، فقد والله أرضعتها. فقال عمر: أوْجِعْها وأْتِ جاريتك، فإنما الرضاعة رضاعة الصغير. وإسناده صحيح.
ولهذا قال ابن قدامة رحمه الله في المغني (8/ 142): "من شرط تحريم الرضاع أن يكون في الحولين. وهذا قول أكثر أهل العلم , روي نحو ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة. وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم سوى عائشة وإليه ذهب الشعبي وابن شبرمة والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور ورواية عن مالك وروي عنه: إن زاد شهرا جاز , وروي شهران.
وقال أبو حنيفة: يحرم الرضاع في ثلاثين شهرا ; لقوله سبحانه: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا). ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء ; لأنه يكون سنتين فعلم أنه أراد الحمل في الفصال.
وقال زفر: مدة الرضاع ثلاث سنين.
وكانت عائشة ترى رضاعة الكبير تحرِّم. ويروى هذا عن عطاء والليث , وداود " انتهى.
وقد ذهب إلى القول الآخر، وهو تأثير الرضاعة في الكبر: عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وروي عن علي رضي الله عنه وفي إسناده ضعف. ونسبه الطبري إلى: عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، والقاسم بن محمد وعروة. وهو قول عطاء والليث بن سعد وابن حزم، وينسب إلى داود الظاهري أيضا، ومال إليه ابن المواز من المالكية.
انظر: "فتح الباري" (9/ 148).
ثالثا:
استدل القائلون بتأثير الرضاع في الكبر بما روى مسلم (1453) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ كَانَ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ فِي بَيْتِهِمْ فَأَتَتْ تَعْنِي ابْنَةَ سُهَيْلٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ سَالِمًا قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَقَلَ مَا عَقَلُوا، وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا. فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ، وَيَذْهَبْ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ.
وفي رواية لمسلم أيضا: (فقالت: إنه ذو لحية. فقال: أرضعيه يذهب ما في وجه أبي حذيفة).
وكان أبو حذيفة قد تبنى سالما، قبل أن ينزل تحريم التبني.
ولم يبين الحديث كيف ارتضع سالم، قال النووي رحمه الله في شرح مسلم: " قوله صلى الله عليه وسلم (أرضعيه) قال القاضي: لعلها حلبته ثم شربه من غير أن يمس ثديها ولا التقت بشرتاهما. وهذا الذي قاله القاضي حسن، ويحتمل أنه عفي عن مسه للحاجة كما خُص بالرضاعة مع الكبر والله أعلم " انتهى.
وقد أخذت عائشة رضي الله عنها – وحفصة أيضا - بهذا الحديث، ولم تره خاصا بسالم، وأبي سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
¥