فقد روى مسلم (1454) عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تَقُولُ: أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَدًا بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نَرَى هَذَا إِلَّا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ، وَلَا رَائِينَا.
وروى أبو داود (2061) عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ كَانَ تَبَنَّى سَالِمًا وَأَنْكَحَهُ ابْنَةَ أَخِيهِ هِنْدَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، كَمَا تَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا، وَكَانَ مَنْ تَبَنَّى رَجُلًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ دَعَاهُ النَّاسُ إِلَيْهِ وَوُرِّثَ مِيرَاثَهُ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ) إِلَى قَوْلِهِ: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) فَرُدُّوا إِلَى آبَائِهِمْ، فَمَنْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ أَبٌ كَانَ مَوْلًى وَأَخًا فِي الدِّينِ، فَجَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الْقُرَشِيِّ ثُمَّ الْعَامِرِيِّ وَهِيَ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ، وَيَرَانِي فُضْلًا، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ مَا قَدْ عَلِمْتَ، فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرْضِعِيهِ، فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ، فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَأْمُرُ بَنَاتِ أَخَوَاتِهَا وَبَنَاتِ إِخْوَتِهَا أَنْ يُرْضِعْنَ مَنْ أَحَبَّتْ عَائِشَةُ أَنْ يَرَاهَا وَيَدْخُلَ عَلَيْهَا وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا خَمْسَ رَضَعَاتٍ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَيْهَا، وَأَبَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَسَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ حَتَّى يَرْضَعَ فِي الْمَهْدِ وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللَّهِ مَا نَدْرِي لَعَلَّهَا كَانَتْ رُخْصَةً مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ دُونَ النَّاسِ.
والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود.
وقد أجاب الجمهور عن هذا حديث سالم بأن ذلك كان خاصاً به، كما هو قول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أو أنه منسوخ.
وجمع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين القولين، واختار أن رضاع الكبير لا يؤثر ولا يعتبر، إلا عند الحاجة إليه.
قال الصنعاني رحمه الله في "سبل السلام" (2/ 313): " والأحسن في الجمع بين حديث سهلة وما عارضه: كلام ابن تيمية , فإنه قال: إنه يعتبر الصغر في الرضاعة إلا إذا دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يُستغنى عن دخوله على المرأة وشق احتجابها عنه، كحال سالم مع امرأة أبي حذيفة، فمثل هذا الكبير إذا أرضعته للحاجة أثّر رضاعه. وأما من عداه , فلا بد من الصغر. انتهى. فإنه جمع بين الأحاديث حسن، وإعمال لها من غير مخالفة لظاهرها باختصاص , ولا نسخ , ولا إلغاء لما اعتبرته اللغة ودلت له الأحاديث " انتهى.
وإلى هذا الجمع، ذهب ابن القيم أيضا رحمه الله، وقال: " وهذا أولى من النسخ، ودعوى التخصيص بشخص بعينه، وأقرب إلى العمل بجميع الأحاديث من الجانبين. وقواعد الشرع تشهد له والله الموفق " انتهى من "زاد المعاد" (5/ 593).
رابعا:
الذي عليه الفتوى عند كثير من أهل العلم المعاصرين، أن رضاع الكبير لا يفيد التحريم. وبهذا أفتى الشيخ ابن باز رحمه الله، واللجنة الدائمة للإفتاء، ورأوا أن حديث سالم خاص به.
انظر: "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز" (22/ 264)، "فتاوى اللجنة" (21/ 41، 102).
واختار الشيخ ابن عثيمين أن حديث سالم ليس خاصاً به، ولكنه ينطبق على مَنْ حاله تشبه حال سالم، وهذا لا يمكن الآن، لأن التبني قد حرمه الله تعالى، وبهذا يتفق هذا القول مع قول جماهير العلماء بأن رضاع الكبير لا يثبت به التحريم الآن.
قال رحمه الله في "الشرح الممتع" (13/ 435، 436):
"وعندي: أن رضاع الكبير لا يؤثر مطلقاً، إلا إذا وجدنا حالاً تشبه حال أبي حذيفة من كل وجه .. وهذا غير ممكن، لأن التبني أُبطل ..
والخلاصة: أنه بعد انتهاء التبني نقول: لا يؤثر إرضاع الكبير، بل لابد أن يكون في الحولين، وإما أن يكون قبل الفطام، وهو الراجح" انتهى باختصار.
والله أعلم.
الإسلام سؤال وجواب
¥