فإن كل إنسان يستطيع أن يُطلق القول على عواهنه، غير أن الدعاوى لا تثبت إلا على قدم البيِّنة وعلى ساق الإثبات.
فإن قوله: (في حين أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى)
دعوى لا دليل عليها ولا مستند سوى النفي العام!
في حين أن القاعدة: الْمُثبِت مُقدَّم على النافي.
وكُتب التاريخ قبل كُتب الحديث تنص على ذلك.
قال ابن جرير الطبري في التاريخ:
ثم ملكت بوران بنت كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنو شروان.
وقال ابن الجوزي في المنتَظَم:
ومن الحوادث ملك (بوران) بنت كسرى أبرويز. اهـ.
وقد عَقَد ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) باباً قال فيه:
ذكر ملك (بوران) ابنة ابرويز بن هرمز بن أنو شروان.
ثم قال: لما قُتِل شهريراز مَلَّكَتْ الفرس (بوران) لأنهم لم يجدوا من بيت المملكة رجلا يُمَلِّكونه، فلما أحسنتْ السيرة في رعيتها، وعدلتْ فيهم، فأصلحت القناطر، ووضعت ما بقي من الخراج، وردّت خشبة الصليب على ملك الروم، وكانت مملكتها سنة وأربعة أشهر. اهـ
وفي البدء والتاريخ للمقدسي ما نصّه:
وكان باذان بعث برجلين إلى المدينة كما أمره ابرويز لياتياه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فبينما هما عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال لهما: إن ربى أخبرني إنه قَتَل كسرى ابنه هذه الليلة لكذا ساعات مضين منها، فانصرف الرجلان ونظرا فإذا هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، ثم وثب شهرابراز الفارسي الذي كان بناحية الروم فَمَلَك عشرين يوما ثم اغتالته بوران دخت بنت ابرويز فقتلته، وملكت بوران دخت سنة ونصف سنة، فأحسنت السيرة وعَدَلَتْ في الرعية ولم تَجْبِ الخراج، وفرّقت الأموال في الأساورة والقوّاد، وفيها يقول الشاعر:
دهقانة يسجد الملوك لها ... يجبى إليها الخراج في الجرب اهـ.
بل ذَكَر ابن كثير رحمه الله أنه مَلَك فارس أكثر من امرأة في أزمنة متقارِبة
قال ابن كثير في البداية والنهاية:
فملكوا عليهم ابنة كسرى بوران بنت ابرويز، فأقامت العدل وأحسنت السيرة، فأقامت سنة وسبع شهور، ثم ماتت، فملّكوا عليهم أختها ازرميدخت زنان، فلم ينتظم لهم أمر، فملّكوا عليهم سابور بن شهريار وجعلوا أمره إلى الفرخزاذ بن البندوان فزوَّجه سابور بابنة كسرى ازرميدخت، فكرِهَتْ ذلك، وقالت: إنما هذا عبد من عبيدنا! فلما كان ليلة عرسها عليه هَمُّوا إليه فقتلوه، ثم ساروا إلى سابور فقتلوه أيضا، وملّكوا عليهم هذه المرأة، وهي ازرمدخيت ابنة كسرى، ولعبت فارس بملكها لعبا كثيرا، وآخر ما استقر أمرهم عليه في هذه السنة أن ملّكوا امرأة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. اهـ.
وقال الذهبي في التاريخ: ومات قتلا ملك الفرس شهر براز ابن شيرويه قتله أمراء الدولة وملكوا عليهم بوران بنت كسرى. اهـ.
ولا يخلو كتاب تاريخ من ذِكر تولِّي (بوران) الْحُكُم.
فقد ذَكَرها خليفة بن خياط، واليعقوبي، وابن خلدون، واليافعي، وكُتب تواريخ المدن، كتاريخ بغداد، وغيرها.
على أنه لو صحّ (أنه ليس في تاريخ الفرس أنهم ولوا عليهم ابنة كسرى ولا أية امرأة أخرى)
لكان فيه دليل على قائله وليس له!
كيف ذلك؟
يكون قد أثبت أنه لا يُعرف لا في جاهلية ولا في إسلام أن امرأة تولّت مَنْصِباً!!
الشبهة الثالثة:
قول القائل: هل من المعقول أن نعتمد في حديث خطير هكذا على راوية قد تم جلده (أبو بكرة) في عهد عمر بن الخطاب تطبيقاً لحد القذف؟!
الجواب:
سبق أن علِمت أن أبا بكرة رضي الله عنه لم ينفرد برواية الحديث.
ثم الجواب عن هذه الشبهة أن يُقال:
أولاً: لا بُدّ أن يُعلم أن أبا بكرة رضي الله عنه صحابي جليل.
ثانياً: الصحابة كلّهم عدول عند أهل السنة، عُدُول بتزكية الله لهم وبتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أغْنَتْ عن كل تزكية.
ثالثاً: أبو بكرة رضي الله عنه لم يفسق بارتكاب كبيرة، وإنما شهِد في قضية، فلما لم تتم الشهادة أقام عمر رضي الله عنه الْحَدّ على من شهِدوا، وكان مما قاله عمر رضي الله عنه: وقال من تاب قبلت شهادته.
وقال لهم: من أكْذَبَ نفسه قَبِلْتُ شهادته فيما يُستَقْبَل، ومن لم يفعل لم أُجِزْ شهادته.
¥