فعمر رضي الله عنه لم يقُل: لم أقبل روايته.
وفرق بين قبول الشهادة وبين قبول الرواية.
والفروق ذكرها القرافي في كتابه: الفُروق.
رابعاً: مما يؤكِّد الفرق بين الرواية والشهادة ما نقله ابن حجر عن المهلّب حينما قال:
واستنبط المهلب من هذا أن إكذاب القاذف نفسه ليس شرطا في قبول توبته، لأن أبا بكرة لم يُكذب نفسه، ومع ذلك فقد قبل المسلمون روايته وعمِلُوا بها.
على أن آية القذف في قبول الشهادة.
وعلى أن هناك فَرْقاً بين القاذِف لغيره، وبين الشاهد - كما سيأتي -.
خامساً: أبو بكرة رضي الله عنه لم يَرَ أنه ارتكب ما يُفسِّق، ولذا لم يَرَ وجوب التوبة عليه، وكان يقول: قد فسَّقوني!
وهذا يعني أنه لم يَرَ أنه ارتكب ما يُفسِّق.
قال البيهقي: إن صح هذا فلأنه امتنع من التوبة من قَذْفِه، وأقام على ذلك.
قال الذهبي: قلت: كأنه يقول لم أقذِف المغيرة، وإنما أنا شاهد، فجنح إلى الفرق بين القاذف والشاهد، إذ نصاب الشهادة لو تمّ بالرابع لتعيَّن الرجم، ولما سُمُّوا قاذِفين.
سادساً: في الرواية تُقبل رواية المبتدع، إذا لم تكن بدعته مُكفِّرة، وهذا ما يُطلق عليه عند العلماء (الفاسق الْمِلِّي)، الذي فِسقه متعلق بالعقيدة، لا بالعمل.
وروى العلماء عن أُناس تكلّموا في القدر، ورووا عن الشيعة، وليس عن الرافضة الذين غَلَوا في دين الله!
ورووا عن الخوارج لِصِدقِهم.
ورووا عمّن يشرب النبيذ.
وعن غيرهم من خالَف أو وقع في بدعة
فإذا كان هؤلاء في نظر أهل العلم قد فسقوا بأفعالِهم هذه، فإنه رووا عنهم لأن هؤلاء لا يرون أنهم فسقوا بذلك، ولو رأوه فسقاً لتركوه!
فتأمّل الفرق البيِّن الواضح.
وأبو بكرة رضي الله عنه مع كونه صحابياً جاوز القنطرة، إلا أنه يرى بنفسه أنه لم يأتِ بما يُفسِّق، ولو رأى ذلك لَتَاب منه.
وهو - حقيقة - لم يأتِ بما يُفسِّق.
غاية ما هنالِك أنه أدى شهادة طُلِبت منه، فلم يقذِف ابتداء، كما علِمت.
والصحابة قد جاوزوا القنطرة، والطّعن في الصحابة طَعن فيمن صحِبوا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
فإن القدح في خير القرون الذين صحِبُوا الرسول صلى الله عليه وسلم قَدْحٌ في الرسول عليه الصلاة السلام، كما قال مالك وغيره من أئمة العلم: هؤلاء طعنوا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما طعنوا في أصحابه ليقول القائل: رجل سوء كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلا صالحا لكان أصحابه صالحين، وأيضا فهؤلاء الذين نَقَلُوا القرآن والإسلام وشرائع النبي صلى الله عليه وسلم. . اهـ.
فإن مرتبة الصُّحبة كافية في العَدَالَة.
ولذا قيل لهم ما لم يُقَل لغيرهم، ونالوا من شرف المراتب ما لم يَنَلْه غيرهم فإنه لا يوجد أحد قيل له: اعمل ما شئت فقد غُفِر لك، سوى أصحاب بدر.
روى البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال ائتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا فإذا نحن بالمرأة فقلنا: اخرجي الكتاب. فقالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا؟ قال: لا تعجل عليَّ يا رسول الله إني كنت أمرا مُلصقاً في قريش - قال سفيان كان حليفا لهم - ولم يكن من أنفسها وكان ممن كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتّخِذ فيهم يَداً يَحْمُون بها قرابتي، ولم أفعله كُفرا، ولا ارتدادا عن ديني، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صَدَق، فقال عمر: دعني يا رسول الله اضرب عنق هذا المنافق! فقال: إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: إن الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. رواه الإمام أحمد.
¥