تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

في الحديث معنى ما ترجم له لأن قريشاً كانت تُعظِّم أمر الكعبة جداً، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قُرب عهدهم بالإسلام أنه غيَّر بناءها لينفرد بالفخر عليهم في ذلك، ويُستفاد منه تركُ المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه تركُ إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرماً. ا.هـ

وهذا حافظُ الأمة أبو هريرة رضي الله عنه كان يرى فضيلة إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، غير أن من فقهه رضي الله عنه أنه كان يخفي ذلك عن الناس، كما أخرج مسلمٌ في صحيحه (250) عن أبى حازمٍ قال: كنت خلف أبي هريرة رضي الله عنه وهو يتوضأ للصلاة، فكان يمدُّ يده حتى تبلغ إبطه، فقلتُ له يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال يا بني فَرُّوخ أنتم ها هنا؟ لو علمتُ أنكم ها هنا ما توضأتُ هذا الوضوء، سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: «تبلغُ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء»، قال القاضي عياض في إكمال المُعلِم (2 - 53):

وإنما أراد أبو هريرة رضي الله عنه بكلامه هذا أنه لا ينبغي لمن يُقتدى به إذا ترخص في أمرٍ لضرورة، أو تشدد فيه لوسوسة، أو لاعتقاده في ذلك مذهباً شذَّ به عن الناس أن يفعله بحضرة العامة الجهلة، لئلا يترخصوا برخصته لغير ضرورة. ا.هـ

وقال الشاطبي رحمه الله في الموافقات (4 - 189):

ومن هذا يُعلم أنه ليس كل ما يُعلم مما هو حق يُطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علمًا بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يُطلب نشره بإطلاق، أو لا يُطلب نشره بالنسبة إلى حالٍ أو وقتٍ أو شخص ... قال رحمه الله:

وقد فرض العلماءُ مسائلَ مما لا يجوز الفتيا بها وإن كانت صحيحةً في نظر الفقه ..

ثم ذكر رحمه الله أمثلةً مما لا يسوغ ذكرها للعوام وقال: إلى غير ذلك مما يدل على أنه ليس كل علمٍ يُبث ويُنشر وإن كان حقًا، وقد أخبر مالكٌ عن نفسه أن عنده أحاديث وعلمًا ما تكلم فيها ولا حدَّث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك. ا.هـ

وقد قرر أهلُ العلم مسائل كثيرةٍ تتعلق بالفتيا وآدابها، فإن الإفتاء لا ينحصرُ بحفظ النصوص الشرعية مجردةً عن الحكمة في تنزيلها منازلها اللائقة بها، ومن ذلك أن لا تكون سبباً في إثارة الناس في الأمور التي يسع المفتي السكوت عنها.

ومنها ترك إجابة السائل إذا سأل عما لا يعنيه، فإن كثيراً من الناس اليوم يسألُ عما لا يعنيه ولا يحتاج إليه، فمثلُ هذا يُسلك معه أسلوب التربية وذلك بتوجيهه إلى السؤال عما ينفع وترك ما لا ينفع، وقد نزل من القرآن ما فيه تربيةٌ لأصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ?.

وقد أخرج ابنُ سعدٍ في حِلية الأولياء (3 - 327) عن التابعي الجليل عكرمة رحمه الله قال: قال لي ابنُ عباسٍ رضي الله عنه: انطلِق فأفتِ الناس، فمن سألك عما يعنيه فأفتِه، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تُفتِه. ا.هـ

ومن ذلك أيضاً ترك الجواب إذا خاف المفتي فتنةً يدبرها المستفتي، أو خاف أن يستغلها الفسقةُ لمآربهم، فإنه مع وجود الإفتاء المباشر الذي يراه ويسمعه الملايين من الناس قد يسأل من لا يريد حقاً وإنما هو طالبٌ للتشغيب على أهل العلم والكيدِ للدين، فيجب على من ابتلاه الله بالإفتاء المباشر أن يكون حذراً يقظاً مستصحباً قول: الله أعلم، أو: تبحث هذه المسألة، أو: هذا الجواب يحتاج إلى اتصالٍ خاص، وما أشبه هذه العبارات التي لابد منها في بعض الأحيان.

فالمفتي الحكيمُ هو الذي يراعي مخاطبة الناس بما يفهمونه، ويترك ما لا يفهمونه مما لا تحتمله عقولهم، أو بما يخاف عليهم من تحريفه إذا أرادوا نقله والتعبيرَ عنه لعدم قدرتهم على ذلك.

كما أنه من الحكمة في بعض الفتاوى أن تُفرد بالشخص الذي يحتاج إليها دون تعميمها لمن لا يحتاج إليها، وذلك بالنظر إلى حاله فإن كانت مطابقةً أو مشابهةً لما وردت فيه الرخصةُ أفتي وإلا مُنع، يقول الشاطبي رحمه الله في الموافقات (4 - 191):

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير