وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرُها إلى مفسدةٍ فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلَتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية. ا. هـ كلامه.
وهذا الشيخ الفقيه ابنُ عثيمين رحمه الله لما رجح حجية القراءة الشاذة إذا صح سندُها قال:
لكن لا نقرأ بها أمامَ العامَّة؛ لأننا إذا قرأنا بها أمامَ العامَّة حصل بذلك فتنةٌ وتشويش، وقِلَّةُ اطمئنانٍ إلى القرآن الكريم، وقِلَّةُ ثقةٍ به، وهذا لا شَكَّ أنه مؤثِّرٌ ربما على العقيدة فضلاً عن العمل، لكن الكلام فيما بين الإنسان وبين نفسِه، أو فيما بينه وبين طَلَبَةِ العِلم الذين يفهمون حقيقة هذا الأمر ... قال:
والحاصلُ: أنه ينبغي لطالب العِلم أن يكون معلِّماً مربياً، والشيءُ الذي يُخشى منه الفتنة؛ وليس أمراً لازماً لا بُدَّ منه؛ ينبغي له أن يتجنَّبه. ا. هـ من الشرح الممتع (3 - 116).
وثمة دقيقةٌ خفيةٌ يجب على المفتي أن يتفطن لها ويحذر منها وهي حب الشهرة، وهو داءٌ كم أفسد من نفوسٍ وأمرض من قلوب، لاسيما من عُرف بكثرة المخالفة والإغراب في الفتاوى، أو من لم يُعرف بعلمٍ أصلاً فإذا برز كان بروزه سبباً في الفتنة والتشغيب.
ثانياً: ليس كلُّ من اشتهر بشيءٍ يتعلق بأمرٍ من أمور الدين يكون أهلاً للفتيا، وهذا مما اختلط على كثيرٍ من الناس، فهناك من يشتهرُ بالخطابة والوعظ، وهناك من يشتهرُ بالرقية الشرعية، ومنهم من تكون شهرته بتأويل الرؤى، ومنهم من عُرف بعلاج المشاكل الاجتماعية، فاستفتاءُ من هذه حاله دون النظر إلى أهليته؛ خللٌ أورث اللبس على الناس واختلطت عليهم الأحكامُ وظهر في نفوسهم التناقضُ وكثر فيهم الخلاف، وقد قال القرطبي في المفهم (5 - 298):
لو سكت الجهالُ قل الخلاف.
ثالثاً: الوقوع في عِرض من صدر منه مثلُ هذا القول والتنقصُ منه لا يحل شرعاً، وهو من الغيبة التي هي من كبائر الذنوب، والمنهج الشرعي مناقشة القول دون التنقص من قائله إن كان من أهل العلم، وما منا إلا رادٌّ ومردودٌ عليه، هذا بالنسبة لمن كانت لديه الأهليةُ لذلك من طلاب العلم، أما إن كان عامياً فيسأل من يثق بدينه وعلمه عما أشكل عليه، مع وجوب الإمساك عن الكلام في الأعراض وتنقص الذوات.
كما أن هذا المجتهد إن كان من أهل العلم فهو مأجورٌ وإن أخطأ، ففي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) متفقٌ على صحته.
والأمر كما قال الإمامُ ابنُ القيم رحمه الله في زاد المعاد (5 - 590):
هي مسألة اجتهاد، وأحدُ الحزبين مأجورٌ أجراً واحداً والآخرُ مأجورٌ أجرين، وأسعدهما بالأجرين من أصاب حكمَ الله ورسوله في هذه الواقعة، فكلٌّ من المُدخِل للستر المصون بهذه الرضاعة والمانعِ من الدخول فائزٌ بالأجر، مجتهدٌ في مرضاة الله وطاعة رسوله وتنفيذ حكمه، ولهما أسوةٌ بالنبيَّين الكريمين - داود وسليمان اللذَّين أثنى اللهُ عليهما بالحكمة والحُكم، وخص بفهم الحكومة أحدَهما. ا. هـ
رابعاً: وأما مسألةُ رضاع الكبير هل يكون معتبراً أو لا؟ فهي مسألةٌ مبثوثةٌ في كتب العلماء فليست جديدة ولا وليدة، والنصوص تدل على أنه لا يُعتبر إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم، بمعنى أن الجسم تغذى عليه وكان سبباً في نشوئه كما كان ماءُ الرجل سبباً في خلقه، وما ذهب إليه بعضُ العلماء من الاستدلال بحديث عائشة رضي اللهُ عنها أن سالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنه كان مع أبى حذيفة وأهله في بيتهم فأتت - تعنى ابنة سهيل زوجته - النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن سالماً قد بلغ ما يبلغ الرجال وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة». فرجعتْ فقالت إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة. رواه مسلم.
وأخرج البخاري في صحيحه أن أبا حذيفة تبنى سالماً.
¥