تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ابتدأ أخي عصام قصيدته التي يريد من ورائها أن يوقظ فينا ذلك الشعور بالأخوة مع أهلنا في فلسطين وفي غزة خصوصاً الذي تبلَّد بسبب ما نحن فيه من الدنيا، والتكالب عليها، وعدم استشعار حقوق إخواننا المستضعفين في كل مكان، ونحن نراقب مثل هذه الأحداث ونشعر بالمهانة والذلة لما نحن فيه من الضعف والتخاذل، ونرى استكبار اليهود واستعلائهم علينا وهم أقل منا عدداً، وأظنهم أقلُّ عدةً لو كنا صادقين.

وتبدأ أبيات القصيدة بأسئلة فيها خطاب للنفس، وهو ما يسمى بالتجريد وهو أن يجرد الشاعر من نفسه شخصاً آخر يخاطبه، وهو إنما يقصد نفسه، على غرار قول المتنبي: لا خيل عندك تهديها ولا مالُ وهو إنما يعني نفسَه.

أصمُّ أنت وفي القدس الأباطيلُ؟ = وأبكمٌ لا تواتيك التعاليل؟

هل مات حسّك؟ والإحساس منقبة = وقد تكاثر في القوم المهازيلُ

أليس تأسى على سلمى وجارتها = في غزة، دكت الدار الزلازيل؟

ويوالي أخي عصام بين الاستفهامات في هذه القصيدة فقد بلغت استفهاماته عشرة استفهامات ليستثير هذه المشاعر التي ماتت فينا أو كادت (أصمُّ أنت؟ وأبكمٌ؟ هل مات حسّك؟ أليس تأسى؟ أما وقفتَ على الأطلال؟ ألا يجيبك عنها ناعبٌ نكدٌ؟ أين شدته؟ أين ما بذلوا؟ أين الأساسات؟ بل أين التهاويل؟)

ودلالات الاستفهام كثيرة، تحمل معاني التقريع للنفس المقصرة، ونعي المتخاذلين منا، وتشييع هذه النفوس التي ماتت في أجسادنا فلم نعد نتواصى بالمرحمة التي أمرنا بها في قوله تعالى: چ ? ? ? ہ ہ ہ ہ ھ ھ ھ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? چ

وليت شعري كيف نقتحم تلك العقبة مع تفريطنا في حق إخواننا لولا بقية من أهل الضمائر الذين تنادوا مؤخراً لإيقاف هذا الظلم الذي سكت الجميعُ عنه، وإنني أتذكر دائماً من قصيدة الشاعر أبي سلمى رحمه الله أول ما وقعت نكبة فلسطين قوله فيها:

فلسطينُ الحبيبة كيف أغفو * وفي عينيَّ أطياف العذابِ

أطهِّرُ باسمك الدنيا ولو لم * يُبَرِّح بي الهوى لكتمتُ ما بي

تَمرُّ قوافلُ الأيام تَروي * مُؤامرةَ الأعادي والصِّحابِ

فإن مؤامرة الصحابِ أشد من مؤامرة الأعادي منذ بدأت هذه النكبة حتى اليوم.

والقصيدة على هذا الوزن والقافية تذكر قارئها ببردة كعب بن زهير: بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ، وهي قصيدة جليلة فخمة، من نسج على منوالها فقد أحسن الاستنان في الشعر.

وقد أعجبني قول عصام:

قد يحفر النوحُ في أشجان سامعه = ما يعجَزُ الرسمُ عنه والأقاويلُ

فإنَّ الشعرَ العذب يلخص لك الحكمةَ ويركزها في بيت أو بعض بيت، وهذا حقٌّ فإن ما نسمعه من بكاء الثكالى وأنات اليتامى حفر في نفوسنا أخاديد من الحزن تراكمت ولا زالت تتزايد، ولا ندري كيف سيكون التنفيس عنها يوماً من الدهر، في غفلةٍ من الظالمين المجرمين الذي يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

ثم ينتقل الشاعر إلى غرض قصيدته وهو الحديث عن جدار الفولاذ الذي يُبنَى بين أهل غزة وأهلهم وجيرانهم في مصر ظلماً وتخاذلاً، على غير رضى من أهل مصر حفظهم الله، وإنما لأسباب سياسة جائرة أوردت بلاد الإسلام الموارد:

نُبّئتُ عن جدُر الفولاذ يَنقُبها = بقدرة الله قَدّومٌ وإزميلُ

قد ذوّبوهُ بأملاح مُصنّعةٍ = من تُرْب غزةَ ما فيهنّ مدخولُ

لان الحديدُ لمن داوودُ قُدوتُه = فعندنا فيه آثارٌ وتنزيلُ

وقد أجاد الشاعرُ استحضار قصة داود عليه الصلاة والسلام، وكونه كان يُحكم تلك البلاد، وكيف أن الله ألان له الحديد، وهذه لفتة ذكية من الشاعر العزيز عصام رعاه الله. وقد أشار إلى أن أهل غزة وهم أهل الصلابة الفولاذية لا الجدار العازل قد تغلبوا عليه بمواد محلية الصنع، ولكنَّها مباركة، وقد حطموا بصمودهم كل التوقعات بالهزيمة والاستسلام.

ثم يختم أبياته الجميلة بالإشارة إلى الفأل الحسن بكسر الحصار بواسطة بعض السفن التي ركبها أصحاب الضمائر الحيَّة من مختلف دول العالم، والتي رعتها تركيا ووقع بشأنها ما تعلمون فقال:

ركضاً إلى القُدسِ مسرى الأمس قد أزفت = كتائبُ الحق تُزجيها الأساطيلُ

"الله أكبرُ" تعلو فوق مسجدها = هناك ترفع راياتٌ وتهليلُ

وأتساءل عن قول الشاعر:

تحت الجنازير أشلاءٌ مُمزّقةٌ = قد جُرّفت ألفُ "راشيلٍ" و"راشيلُ"

أليس اسم راشيل من أسْماء اليهوديات؟ حيث أفهمُ منه الكناية عن موت المسلمات من أهل غزة والتي عبرت أنت براشيل عنهنَّ.

الخلاصة:

القصيدة لغتها راقية، وعاطفتها صادقة، وفيها استحضار لكثير من المعاني الإسلامية والتاريخية، واستلهام لآيات القرآن، وليس فيها أي عيب عروضي، ومفرداتها فصيحة، وإن كان فيها ما يثير سؤال أمثالي ممن يجهل مفردات اللغة العربية الفصيحة مثل (الزلازيل جَمع زلزال) وقول الشاعر: (وانزاحت عقابيلُ) يقصد بها العقبات، فهل العقابيل هي العقبات، أم أن العقابيل هي عواقب الأمور (مجرد تساؤل).

نسأل الله أن ينصر إخواننا نصراً عزيزاً، وأن يغفر لنا تقصيرنا في نصرتهم، وشكر الله لأخي عصام هذه الأبيات الصادقة المعبِّرة.

الرياض في 21/ 7/1431هـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير