من أجل ذلك؛ نرجع آئبين إلى رسالة الله، نقرؤها من جديد، نستغفره تعالى على ما فرطنا وقصرنا، قدوتنا في هذه السبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنته الزكية التي لم تكن في كل تجلياتها النبوية -قولا وفعلا وتقريرا- إلا تفسيرا للقرآن العظيم. وكفى بكلمة عائشة أم المؤمنين في وصفه عليه الصلاة والسلام لما سئلت عن خُلُقِه صلى الله عليه وسلم فقالت بعبارتها الجامعة المانعة:
"كان خُلُقُه القرآن"
(رواه مسلم).
ولقد ضل وخاب من عزل السنة عن الكتاب.
التّمسيك بالكتاب وإقامُ الصلاة
نرجع إذن إلى القرآن، نحمل رسالته إن شاء الله -كما أمر الله- نخوض بها تحديات العصر، يحدونا اليقين التام بأن لا إصلاح إلا بالصلاح، وأن لا ربانية إلا بالجمع بينهما، وأن لا إمكان لكل ذلك -صلاحاً وإصلاحاً وربانيةً- إلا بالقرآن المجيد. وهو قول الحق -جل ثناؤه- في آية عجيبة، آية ذات علامات -لمن يقرأ العلامات- ولكل علامة هدايات. قال تعالى ذِكْرُه: ?وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ? (الأعراف:170) التَّمْسِيكُ بالكتاب، وإقامُ الصلاة أمران كفيلان برفع المسلم إلى منزلة المصلحين، هكذا: ?إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ?. وإن تلك لآية، ومثلها قوله تعالى: ?وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ? (آل عمران:79). وقد قُرِئَتْ: ?تَعْلَمُونَ الْكِتَابَ? و?تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ? للجمع بين وظيفتي التَّعَلُّم والتعليم، والصلاح والإصلاح، إذْ بذلك يكون التدارس لآيات القرآن العظيم، بما هي علامات دالة على الله، وراسمة لطريق التعرف إليه جل وعلا، في الأنفس والآفاق. وتلك هي السبيل الأساس للربانية، كما هو واضح من دلالة الحصر المستفادة من الاستدراك في الآية:
?وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ?.
مفهوم القرآن
ولنسأل الآن ما القرآن؟ ما هذا الكتاب الذي هز العالم كله، بل الكون كله .. ؟ أجمع العلماء في تعريفهم للقرآن على أنه "كلام الله"، واختلفوا بعد ذلك في خصائص التعريف ولوازمه، ولا نقول في ذلك إلا بما قال به أهل الحق من السلف الصالح. وإنما المهم عندنا الآن ههنا بيان هذا الأصل المجمع عليه بين المسلمين:
"القرآن كلام الله".
هذه حقيقة عظمى، ولكن لو تدبرت قليلا ..
الله جل جلاله خالق الكون كله .. هل تستطيع أن تستوعب بخيالك امتداد هذا الكون في الآفاق؟ طبعا لا أحد له القدرة على ذلك إلا خالق الكون سبحانه وتعالى. فالامتداد الذي ينتشر عبر الكون مجهول الحدود، مستحيل الحصر على العقل البشري المحدود. هذه الأرض وأسرارها، وتلك الفضاءات وطبقاتها، وتلك النجوم والكواكب وأفلاكها، وتلك السماء وأبراجها، ثم تلك السماوات السبع وأطباقها ... إنه لضرب في غيب رهيب لا تحصره ولا ملايين السنوات الضوئية. أين أنت الآن؟ اسأل نفسك .. أنت هنا في ذرة صغيرة جدا، تائهة في فضاء السماء الدنيا، الأرض. وربك الذي خلقك، وخلق كل شيء، هو محيط بكل شيء قدرة وعلما .. هذا الرب الجليل العظيم، قدَّر برحمته أن يكلمك أنت، أيها الإنسان، فكلمك بالقرآن .. كلام الله رب العالمين. أوَ تدري ما تسمع؟ الله ذو الجلال رب الكون يكلمك
?فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى?
(طه:13).
أيّ وجدان وأيّ قلب يتدبر هذه الحقيقة العظمى فلا يخر ساجدا لله الواحد القهار رغبا ورهبا؟ اللهم إلا إذا كان صخرا أو حجرا. كيف، وها الصخر والحجر من أخشع الخلق لله؟
?لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ?
(الحشر:21)،
وهي أمثال حقيقة لا مجاز، ألم تقرأ قول الله تعالى في حق داود عليه السلام:
?إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ?
(ص:18 - 19)،
وقوله تعالى:
?فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ?
(الأعراف:143).
¥