والسؤال الذي يفرض نفسه في ميدان اللغة وهو: أنكتشف قواعد اللغة اكتشافاً أم نضعها وضعاً؟ هل اكتشف سيبويه قواعد اللغة أم هو الذي وضعها؟ وهل اكتشف الفراهيدي بحور الشعر أم هو الذي وضعها؟
واضح للعيان أن قواعد اللغة كانت متضمنة فيها قبل سيبويه، ولكن سيبويه حاول أن يكشف عن هاتيك القواعد. فوضع ما يسمى بنظرية العوامل. فهل تصوره عن هاتيك الثوابت هو التصور الوحيد الممكن؟ ألا يمكن أن يكون هناك تصور آخر دون أن يمس شيئاً من البناء اللغوي المتين المتماسك؟
إن ما يحدث في ميدان العلم المخبري يوضح ذلك. فهذا العلم دائماً يعدل ويغير من تصوره للعلاقات بين جزئيات الموضوع. والقوانين العلمية لم تكن في يوم من الأيام مقدسة، بل هي دائماً نسبية في نظر الباحث العلمي وقابلة للتغير. فهل ينسحب هذا على قواعد اللغة العربية؟
إن إحداث تصور جديد عن نواظم اللغة لا يغير شيئاً من تماسكها وبنائها. مثلما أن تغيير تصور العلماء عن العلاقات داخل الذرة لم يغير من تركيبتها شيئاً.
كثيرة هي المحاولات التي تدعي أنها ترمي إلى تسهيل اللغة العربية أو تسهيل قواعد العربية. لكن جل هذه المحاولات كانت ترمي إلى تغيير التركيبة اللغوية أو البناء اللغوي ذاته تحت اسم تسهيل قواعد اللغة. إن اللغة العربية ترفض هذا النوع من محاولات التسهيل لأنها تمس صميم التركيب اللغوي، إنه تغيير جذري في اللغة، وهو مرفوض حتماً. أما محاولة الكشف عن نظام للقواعد اللغوية يوازي نظام قواعد سيبويه ويحل محلها إن استطاع لما فيه من ميزات تفوق ميزاته فهي محاولة مشروعة.
هل كانت قواعد سيبويه نتيجة حتمية لاستقراءات دقيقة؟ أم أن تصوراً عند سيبويه سبق استقراءاته؟ أم أنه نتيجة لاستقراءات معينة من اللغة نتج تصور ما عند سيبويه؟ يظن البعض أن الاستقراء وحده هو الطريق الأمثل الموصل إلى الكشف عن القوانين، ولكن الباحث في تطور العلوم وتطور مناهج البحث العلمي يرى أن المنهج الفرضي الاستقرائي هو الأنجع.
لقد كان الباحث، كل باحث، يدعي دائماً أنه أخرج ذاته عن دائرة البحث كعامل مؤثر في النتائج، وذلك كي يعطي بحوثه الصفة الموضوعية. ولكن أنى له هذا وذاته قابعة وراء كل حرف يقول؟
مع أن انصهار الباحث في بوتقة موضوع البحث لا يضير البحث شيئاً ولا يقلل من موضوعيته ما دامت الغاية علمية بحتة، وليس ثمة غاية غير الكشف عن الحقيقة. بل إن ذلك الانصهار شرط أساسي للبحث العلمي الدقيق المخلص.
فكل القواعد التي اقتُرحَتْ لتفسير الظواهر هي فرضيات أملاها على العالم أسلوب رؤيته للظاهرة ودرجة استيعابه لجزئياتها.
ولذا تكون القاعدة صحيحة بقدر ما تفسر من متغيرات للظاهرة المدروسة، وبقدر ما تقلل من الحالات الخاصة ضمن المتغيرات، وبقدر ما تجمع شتات القوانين والقواعد تحت قوانين وقواعد أقل وأعم. وتبقى القاعدة صحيحة ما لم تأت قاعدة أخرى تكون محققة لتلك الشروط تحقيقاً أدق وأتم.
إن البحث عن نظرية جديدة تلغي الكثير من المآخذ التي أخذت على سابقتها هو أمر مشروع، ناهيك بما إن كانت هذه النظرية قادرة على حل مشكلات معاصرة تعانيها التفاسير الراهنة للظاهرة.
إن مهمة القواعد هي جعل المتغير مرتبطاً بجملة المتغيرات حوله ارتباطاً معقولاً. فالعلم في النهاية (هو البحث عن المعقولية)، والعلم بهذا المعنى هو اليوم مطلق وغداً نسبي. وهذا لا ينطبق على العلوم المخبرية فحسب بل على كل الظواهر الموضوعية. واللغة ظاهرة موضوعية لها بناؤها المتمايز والمعمّى عنا الكثير من حقائقه.
عندما وضعت أول نظرية في قواعد اللغة العربية عُدّت ثابتة ومقدسة، وما زال الناس يقدسونها، ولكن الموقف العلمي الصحيح يقول غير هذا، إن النظرية الأولى هي احتمال من عدة احتمالات، فهناك احتمالات عدة أخرى.
إن المدارس التي نشأت تحت ظل نظرية العوامل تثبت صحة ما أقول، ثم إن التأويلات المتباينة حول نقاط الاختلاف، وكذلك إقحام بعض التفسيرات والتبريرات إقحاماً، وليّ عنق بعض الحالات لياً ليتماشى مع النظرية كل ذلك دليل قصور في النظرية ذاتها. فأي ضير في أن توجد نظرية أخرى تقلل من المآخذ التي أخذت على سابقاتها؟
هذا ما يراه صاحب الكتاب، ويرى أنه قد حققه فعلاً بنظريته الجديدة التي نتج عنها قواعد:
ـ تمتاز بالسهولة والوضوح والاختصار، تمكن الطلبة من إتقان آلية التشكيل والإعراب في نهاية المرحلة الإعدادية.
ـ وتتوافق توافقاً تاماً مع كل ما ورد في البيان القرآني الحكيم.
ـ وتختزل العوامل الإعرابية إلى عاملين فقط.
ـ وتختزل النماذج الإعرابية إلى أربعة نماذج.
ـ وتختزل علامات الإعراب إلى خمس علامات فقط.
ـ وتختصر عدد الكلمات المعربة بنسبة 50%.
ـ وتعيد الصلة الوثقى بين النحو والبلاغة.
ـ وتضع حداً نهائياً لاختلاف الآراء وتعدد الأقوال حول المسائل الإعرابية.
إنه وإن كان المرجو من مجمع اللغة العربية بدمشق أن تكون دراسة هذا الكتاب ضمن جدول أعماله بناء على توصية من وزارة التربية. فإنه لا ضير في أن يكون ذوو الاختصاص على دراية بالبحوث الجادة في ميدان اللغة، وبخاصة البحوث التي تتميز بالجدة والإبداع ـ فالإبداع في ميدان اللغة بما يتماشى مع متطلبات العصر قد لا يقل أهمية عن الإبداع في ميادين العلم التجريبي.
ثم إنه لا ضير في أن يكون مثل هذا الكتاب موضوعاً للبحث في الدراسات اللغوية المعمقة، أو أن يكون موضوعاً لرسالة جامعية كالماجستير والدكتوراه سواء أقر القائم بالبحث ما في الكتاب أو رفضه، فإن في ذلك إغناء للفكر العربي والبحوث اللغوية.
فإن اللغة ستبقى بخير ما دام الله يقيّض لها من يخدمها مجاناً، كما قيّض لها بالأمس أمثال الفراهيدي وسيبويه وابن جني وابن فارس والجاحظ وغيرهم.
منقول
¥