تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم يأتي القرن الخامس الهجري عصر النضج البلاغي، ولا نجد غير التعميم لكلمة: البيان، فنجدها مرادفة للظهور في تعريف الفصاحة عند ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة 466هـ، كما وردت في معرض كلامه عن الأسباب التي لأجلها يغمض الكلام على السامع، ولا يعني بها إلا الظهور والإيضاح، وكذلك نراها في حديثه عن التشبيه، وحسن الاستعارة ()؛الاستعارة2؛ فلم ترد كلمة البيان إلا مرادفة للكشف والظهور والوضوح، وكذلك كان الأمر عند معاصره إمام البلاغة ومؤسسها عبد القاهر الجرجاني في كتابيه: دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة، فنراه يجعل البيان مرادفاً للفصاحة، والبلاغة، والبراعة وكلها تعني عنده: وصف الكلام بحُسن الدلالة، وتمامها فيما له كانت دلالة، ثم تبرجها في صورة هي أبهى وأزين، وأنقى وأعجب ().

ولم يكن ابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 462هـ _صاحب (العمدة) () الذي عاش في المغرب- أبعد أثرا من معاصريه: الخفاجي، والجرجاني اللذين عاشا في المشرقن فكل ما صنعه أنه عقد باب ((البيان)) في كتابه، ونقل فيه تعريف الرُمَّاني للبيان، ثم ساق أمثلة للبيان الجيّد، وللبيان الموجز، وأتبع ذلك بأنماط من أقوال الخلفاء الراشدين؛ منهياً إلى أن الجاحظ _وهو عَلاَّمة وقته _ استفرغ الجهد وصنع فيه كتاباً لا يُبلَغ جودة وفضلا ثم ما ادّعى إحاطة بهذا الفن لكثرته، وأن كلام الناس لا يحيط به إلا الله عز وجل.

وظلت هذه المفاهيم: البيان، البلاغة، البراعة، الفصاحة، البديع متشابكة لا تحديد فيها، ومختلطة لا تمييز بينها، حتى كان تقسيم علوم البلاغة على يد صاحب (مفتاح العلوم) أبو يعقوب يوسف السكَّاكي المتوفى سنة 626هـ؛ حيث جعل البلاغة علمين هما: المعاني والبيان ()، وألحق وجوه تحسين الكلام وتزيينه بهذين العلمين ().

وبهذا التقسيم برز البيان الاصطلاحي الذي عرّفه السكاكي بقوله: "هو معرفة إيراد المعنى الواحد في طرق مختلفة بالزيادة في وضوح الدلالة عليه، وبالنقصان؛ ليحترز بالوقوف على ذلك عن الخطأ في مطابقة الكلام لتمام المراد منه" ().

ولقد سلم هذا التقسيم وذاك التحديد للسكاكي فكراً وتطبيقاً على الرغم من أن الزمخشري المتوفى في 528هـ هو أول من أطلق هذه التسمية! علم المعاني وعلم البيان، في مقدمة تفسيره المعروف بـ (الكشاف عن حقائق التنزيل، وعيون الأقاويل في وجوه التأويل)؛ حيث قال: "ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما: علم المعاني، وعلم البيان" ().

وواضح أن الزمخشري لم تظهر لديه الفروق بين أنواع هذين العلمين، فخلط بين هذه الأنواع، ولم تكن له مزية سوى السبق إلى هذه التسمية، على أنه مما لا شك فيه أن صنيع السكاكي قد شجع الخطيب القزويني على جعل علوم البلاغة ثلاثة: المعاني، والبيان، والبديع، وشرح البيان بقوله: "علم يُعرَف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه" ().

وهذا التعريف على وجازته مقتبس من تعريف السكاكي؛ كما ترى.

ولما جاء السَّعد التفتازاني المتوفى سنة 792هـ صاحب المطوّل، والمختصر في شرح: تلخيص المفتاح للخطيب القزويني ذكر في كتابه المطول تعريف الخطيب السابق، وتعريفاً آخر للبيان قائلا: "والأقرب أن يُقال: علم البيان: علم يُبحث فيه عن التشبيه والمجاز، والكناية" ().

والذين جاءوا من بعد السعد من علماء البلاغة المتأخرين لم يزيدوا على ذلك شيئاً عن التعريفين المشهورين لدى البيانيين.

هذا ومن الوضوح بمكان أن ابن المعتز قد سمَّى كتابه ((البديع)) الذي أرسى به أسس البلاغة الفنية الخالصة، وهو غير البديع الذي جعله الخطيب علماً ثالثاً مستقلا عن علمي: المعاني، والبيان، ذلك أنه يعني بالبديع: الجديد المستحسن لطرافته وغرابته لدى النفوس، بل إن البديع تعبير عن مسلك تجديدي في الشعر العباسي كان يقوده الشعراء: مُسلم بن الوليد، وابن المعتز، وأبو تمام، والبحتري، وغيرهم ممن نهج طريق التجديد البديعي والصياغي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير