تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تجدوه عند الله: فإن الله، عز وجل، لا يضيع أجر من أحسن عملا، وعظم الأجر من عظم صاحبه ومانحه، فإضافة العندية إليه، تبارك وتعالى، إشارة لطيفة إلى ذلك، وهو، جل وعلا، أعظم من شكر القليل إذا زينه الإخلاص، فيربيه لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه، فأموال وهبها وأنفس ذرأها، ثم اتجر لأصحابها بها، بلا غرض أو حاجة، فهو الغني الذي تفضل بالعطاء ابتداء، ثم نماه لصاحبه انتهاء، فأثمر صفحات من الحسنات صيرت أصحابها ملوكا في الآخرة، ولا أحب إلى الله، عز وجل، من النفع المتعدي، بقيد أداء الفرائض أولا، فالخاسر من باع آخرته طلبا لإصلاح آخرة غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه، وإن كان صاحب المعروف قد ينتفع به غيره ولا ينتفع هو بما عنده، فيصير أرضا أمسكت الماء، وذلك، وإن كان دون الصالح في نفسه المصلح لغيره إلا أنه أعلى درجة من الفاسد الذي لا ينبت كلأً ولا يحفظ ماء، بل قد يتعدى فساده إلى غيره فهو على الضد من صاحب المنزلة الأولى: أكمل المنازل وأوفرها نصيبا من المدد الرباني والتوفيق الإلهي، فإنه ما أطاع طائع، ولا عصى عاص إلا بكلمة كونية نافذة، استعملت آلات الأول في الطاعة فضلا، واستعملت آلات الثاني في المعصية عدلا، لحكمة بالغة، إذ استعمال الفاسد في الإصلاح: عبث يتنزه عنه رب البريات، جل وعلا، و: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ). وبالمعاصي تستخرج عبوديات التوبة والإنابة والإنكسار والذل بين يدي الباري، عز وجل، فتصير منحا في صور محن، وما أفسد حال إبليس إلا العجب والكبر بالطاعة، وما أصلح حال آدم إلا الذل والانكسار والندم والتوبة من المعصية، ولسان الأول: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ)، فعارض الأمر الشرعي بقياسه العقلي الفاسد فهو إمام لكل من عارض المنقول الصحيح بالمعقول الفاسد، ولسان الثاني: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وشتان!: (هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). فالتسوية بينهما: تسوية بين مختلفين تأباها العقول الصريحات.

إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ:

تذييل في مقام التعليل، مصدر بالتوكيد إمعانا في التنبيه على علة ما تقدمه، حسن فصله عن معلوله لشبه كمال الاتصال بينهما، إذ العلة مظنة وقوع المعلول، سنة كونية جارية، إلا أن يشاء الله، عز وجل، في مقام الإعجاز إبطالها، فتصير النار بردا وسلاما على الخليل صلى الله عليه وعلى آله وسلم، إذ نزعت منها قوة الإحراق فلم تصر آنذاك علة للإحراق، وذلك لا يكون في باب الوعد، إذ الباري، عز وجل، لا يخلف موعوده، فلا يتأخر الموعود بتحقق شرطه، فضلا من الله، عز وجل، ورحمة بعباده كتبها على نفسه، فلا أعواض بينه وبين خلقه، إذ الأعواض مظنة افتقار كلا المتعاوضين إلى ما عند صاحبه، والباري، عز وجل، الغني المغني لا يعاوض عبده بما تفضل به ابتداء إلا على جهة الإحسان إلى خلقه: إحسان السيد إلى عباده وإمائه، فهو الكريم الذي لا يتخلف موعوده، وينفذ وعيده عدلا، وإن تخلف ففضلا، فلا يوجب عليه أحد شيئا، بقياس أفعاله ذات الحكم الباهرة على أفعال عباده الناقصة، وإنما له الحمد في الأولى والآخرة، المنة منه حاصلة في أول الأمر وآخره، في مقابل تقصير العباد، ومما علمه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الصديقَ رضي الله عنه: (اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فمجرد العجز عن توفية شكر نعمة واحدة: ظلم للنفس لا ينفك عنها، وإن كانت نفس سيد الأولياء خير من وطئ الثرى بعد الرسل والأنبياء عليهم السلام، والاعتراف بالعجز في ذلك المقام: عين التمام، فلا يدل بطاعته إلا جاهل لا يقدر الله، عز وجل، حق قدره، فيرى لنفسه قدرا، وهي العدو المسلط عليه إلا أن يعصمه خالقها من شرها وفسادها، فهي متحركة حساسة قد جبلت على الأثرة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير