تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتحصيل الشهوات فلا ترضى حتى تلج باب الغفلة من ارتكاب محرم أو تفريط في واجب أو إفراط في مباح يورثها قسوة في القلب وجفاء في الطبع وكثافة في الروح تحجبها عن مطالعة الآيات الشرعيات والكونيات مطالعة: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، فعرض بأصحاب الغفلة إذ ركبت فيهم آلات الإدراك من عقول باطنة وحواس ظاهرة وهي: كلا أدوات، بل الأنعام خير منها، فهي كالأنعام، مصداق قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ)، بل هي أضل مصداق قوله: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)، بل هي: شر الدواب فعليها يصدق قول الباري عز وجل: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)، فجعلها في المنزلة الأدنى في سلم البهيمية فكيف حالها في سلم البشرية الآدمية سلم التكريم الإلهي: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، فيا بؤسا لمن رد تكريم الباري، عز وجل، فرضي بالمنزل الدون فرعا عن خسة همته التي جعلته في ذيل التصنيف الحيواني باطنا، وإن كان أرقى الحيوانات ظاهرا!.

وفي التذييل بصفة البصر العلمي بقرينة تقييده بالأعمال: مناسبة ظاهرة مع السياق، فالله، عز وجل، يرى أعمالكم: رؤية علمية، إذ هو الذي علمها أزلا فكتبها فشاءها فخلقها وخلق لكم أدواتها، وصححها لكم، وخلق طاقاتها الإرادية في أنفسكم، فأقدركم على فعلها فهي لكم فعل بقدرة مؤثرة، وله خلق بقدرة كونية نافذة، وفي التنزيل: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)، فإذا كان ذلك حاله فكيف لا يبصرها علما أزليا في عالم الغيب، وعلما وجوديا في عالم الشهادة، وبصره العلمي لا ينافي بصره الحقيقي على الوجه اللائق بجلاله، بل الصفتان متلازمتان، فدلالة البصر العلمي على البصر الحقيقي: دلالة التزام، وكذا دلالة الثاني على الأول، وفي عالم البشر يكون العالم المبصر عادة أكمل من العالم غير المبصر، ولله المثل الأعلى، فإنه لا يتصور خبرا أو عقلا ألا يتصف الباري، عز وجل، بكمال العلم والبصر، إذ ذلك من الصفات الذاتية المعنوية التي لا تنفك عن ذاته القدسية فلا تعلق لها بالمشيئة، ليقال: هو عليم إذا شاء، على النقيض إذا لم يشأ، أو: هو بصير إذا شاء، غير بصير إذا لم يشأ!، وإن صح مع ذلك تعلقها بآحاد المعلومات والمبصرات إذا وقعت في عالم الشهادة، فتكون المشيئة لآحاد التعلقات لا لأصل الصفات على كيفيات لا يعلمها إلا رب الأرض والسماوات، فسبحان من أحاط بكل شيء علما، ووسع بصره وسمعه جميع خلقه فلا يعزب عنه مثقال ذرة مصداق قوله تعالى: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).

و: "ما": نص في العموم تطمئن به النفس الطائعة فلا خير تعمله إلا وهو مدون، وتعتبر به النفس العاصية فلا شر قدمته إلا وهو مسجل، وفي التنزيل: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)، فقدم الصغائر على الكبائر، فإن إحصاءها قد يشق في عالم الشهادة المخلوق لكثرتها ودقتها، ومع ذلك أحصاها الباري، عز وجل، وأحصى الكبائر من باب أولى، إذ هي أقل في العدد وإن كانت أعظم في الجرم، ففيه تنبيه بالأعلى على الأدنى عقب بالنص على الأدنى توكيدا لا يتطرق بعده إلى النفس شك.

وفي الآية أيضا: تقديم ما حقه التأخير حصرا وتوكيدا، على ما اطرد في كلام البلاغيين.

وأظهر الاسم الكريم: "الله" وحقه الإضمار لتقدم ذكره: عناية بشأنه وتنويها بذكره، فبذكره تطمئن نفوس أصحاب الطاعات، وتضطرب نفوس أصحاب الذنوب، فهو ترغيب لطائفة ترهيب لأخرى، وفي كلا المعنيين تظهر عظمة الصفات الربانية: جمالا في حق أصحاب الطاعة، وجلالا في حق أصحاب المعصية، وكل في فلك يسبحون، و: (رَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). فاختار الرسل لرسالاته، وأنكر على من تحكم بقوله: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، واختار أهل الطاعة لها فضلا، واختار أهل المعصية لها عدلا، فظهرت حكمته الباهرة وقدرته النافذة في تدافع الحزبين وخلق الضدين، وذلك مئنة من تمام ربوبيته: ربوبية الحكمة والقدرة، فلا يعجز عن خلق الأفعال كما ادعت القدرية الذين عظموا جانب الحكمة وفرطوا في جانب القدرة، ولا يظلم كما ادعت الجبرية الذين عظموا جانب القدرة وفرطوا في جانب الحكمة، فصار وقوع الأفعال عندهم متعلقا بمحض المشيئة الكونية بلا نظر إلى الحكم الربانية. والحق وسط بين الغالي والجافي.

والله أعلى وأعلم.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير