تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الشهادة، مفتقر إليه ليخلق له من الأسباب ما يكمله، وينفي عنه من الموانع ما يعرقله، فلا ينفك عن وصف الفقر، وإن ظهر في عالم الشهادة، لمن قصر نظره وكثف طبعه، أنه الفاعل المستقل، فهو فاعل مؤثر في إيجاد المفعول من وجه، ولكنه من وجه آخر: مخلوق مربوب لا يستقل بفعله على جهة الخلق والإيجاد، فوصف الفاعل به قائم، ووصف الخالق عنه منتف، إذ لا خالق إلا الله، عز وجل، كما دل على ذلك سياق الآية الأولى، فرعا عن كونه: لا آمر إلا هو، كما دل على ذلك سياق الآية الثانية، فبأمره وحده لا بأمر غيره توجد الكائنات.

ونفاذ الأمر في الآية الثانية: قرينة سياقية أخرى تدل على إرادة الأمر الكوني، فإن دلالة الحس، أيضا، تدل على بطلان حمله على الأمر الشرعي التكليفي، مناط الابتلاء، إذ به نزل الوحي وإليه دعت النبوات: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، فذلك الأمر مما يجوز عقلا ويقع حسا خرقه، وحال عصاة الأمم خير شاهد على ذلك على حد قوله تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)، وليس ذلك بقادح في حكمة الرب، جل وعلا، ولا قدرته، إذ ما خرقوا أمره الشرعي الحاكم إلا بأمره الكوني النافذ، فإراداتهم سواء أكانت بالخير وفاقا أم بالشر خلافا لا تخرج عن إرادته الكونية النافذة، وإن خرجت عن إرادته الشرعية الحاكمة، فهم وأفعالهم مربوبون مخلوقون لله، عز وجل، لا طاقة لهم بالخروج عنها، على حد قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) على القول بحمل: "ما" على المصدرية الحرفية، فيؤول الكلام إلى: والله خلقكم وعملكم.

ولو حمل على الموصول الاسمي على تقدير: والله خلقكم والذي تعملونه من الأصنام المنحوتة فإن ذلك لا يعارض ما تقدم، إذ المنحوت مخلوق، والسبب الذي به وجد وهو فعلهم: مخلوق، والفعل المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق، فأعيانهم كذلك مخلوقة فآل الأمر إلى خلقهم وخلق أفعالهم التي هي علل مؤثرة، وإن لم تكن كاملة، في إيجاد المفعولات المخلوقة، فكل ما عدا الله، عز وجل، مخلوق، كما قد علم بداهة.

وإلى طرف من ذلك أشار الحافظ ابن كثير، رحمه الله، في تفسيره، وابن أبي العز، رحمه الله، في "شرح الطحاوية".

وفي السياق من فنون البلاغة:

إيجاز بحذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه على تقدير: وما أمرنا إلا كلمة واحدة. وتلك قرينة ثالثة تدل على إرادة الأمر الكوني، فإن الكلمة هي: "كن"، و: "كن"، كما تقدم، العلة المؤثرة التي تستلزم معلولها من الكائنات على سبيل التعقيب والفور فـ: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

فضلا عن التشبيه الذي حذف وجهه لدلالة المشبه به عليه، فلمح البصر مظنة الفور الذي تقدمت الإشارة إليه، فيكون ذكر وجه الشبه حشوا لا حاجة إلى إيراده بل قد يذهب ذلك بجزالة اللفظ الموجز الذي يقع من النفس أبلغ موقع في مقام الإنذار كما اطرد في القرآن المكي ذي المباني الموجزة والدلالات القوية المحكمة.

وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ:

التفات من الغيبة في قوله تعالى: (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) إلى الخطاب، وهو خبر سيق مساق التهديد، فله دلالة إنشائية، وحسن لذلك التوكيد بلام القسم و: "قد"، إذ ذلك أبلغ في الزجر، على حد ما اطرد من كلام البلاغيين من زيادة المعنى فرعا عن زيادة المبنى، والتهديد فيه جار، أيضا، على ما اطرد من قياس الطرد، وهو أحد أقيسة القرآن العقلية، فإن فيه تعريضا بالمخاطب إذ سار على طريقتهم فله إن لم يرجع عن غيه نظير ما لهم من الإهلاك، فهذا الطرد المنطوق به ترهيبا، ولكل طرد: عكس مسكوت عنه، فمن تاب ورجع فله من النجاة عكس ما وقع لهم من الإهلاك، فهذا العكس المسكوت عنه، ففيه من الترغيب ضد ما في الطرد من الترهيب، وهذا أصل في كل نصوص الطرد والعكس في القرآن، إذ الاقتران بينهما لازم عقلا، فضلا عن كونه جاريا على ما اطرد في التنزيل من جمع المتقابلات في سياق واحد: الترعيب والترهيب، الإيمان والكفر، ولو كان أحدهما مسكوتا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير