تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

خاض فى الباطن خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأَمر، واضمحل خوضه فى معرفته بالحق فاطمأن إِلى الله معرفة به ومحبة له وعلماً بأَمره وإِرادته لمرضاته، فهذا حق الحكم الديني.

الحكم الثاني: الحكم الكوني القدري الذي للعبد فيه كسب واختيار وإِرادة، والذي إِذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه، فهذا حقه أَن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم ألبتة، بل ينازع بالحكم الكوني أَيضاً، فينازع حكم الحق بالحق للحق ويدافع به، وله كما قال شيخ العارفين فى وقته عبد القادر الجيلاني: "الناس إِذا دخلوا إِلى القضاءِ والقدر أَمسكوا، وأَنا انفتحت لي روزنة فنازعت أَقدار الحق بالحق للحق، والعارف من يكون منازعاً للقدر لا واقفاً مع القدر" ا هـ، فإِن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه فتأمل قول عمر ابن الخطاب - وقد عوتب على فراره من الطاعون فقيل له -: "أتفر من قدر الله؟ فقال: نفر من قدر الله إِلى قدره"، ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاءَ له فى هذا العالم إِلا به، ولا تتم له مصلحة إِلا بموجبه، فإِنه إذا جاءَه قدر من الجوع والعطش أَو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته، ودفع بقدر آخر من الأَكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر الله بقدره، وهكذا إِذا وقع الحريق فى داره فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإِذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماءِ والتراب وغيره حتى يطفيء قدر الله بقدر الله وما خرج فى ذلك عن قدر الله، وهكذا إِذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأَدوية الدافعة للمرض فحق هذا الحكم الكوني أَن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإِن غلبه وقهره، حرص على دفع آثاره وموجباته بالأَسباب التى نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أُمر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر في هذه المسأَلة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أَو الشرع شاءَ أَو أَبى، فما للعبد ينازع أَقدار الرب تعالى بأَقداره فى حظوظه وأَسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع أَقداره فى حق مولاه وأَوامره ودينه؟ وهل هذا إِلا خروج عن العبودية ونقص فى العلم بالله وصفاته وأَحكامه؟ ولو أَن عدواً للإِسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب دفعا لقدر الله بقدره فما للاستلام والمسالمة هنا مدخل فى العبودية، اللهم إلا إذا بذل العبد جهده فى المدافعة والمنازلة وخرج الأمر عن يده.

فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته، فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة وترك المخاصمة وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة، مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحكمته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط". اهـ بتصرف.

وتلك كلمات يسهل نقلها وقراءتها في أزمنة الرخاء ويصعب العمل بها في أزمنة الشدة التي تبلى فيها السرائر، فتفتضح مكنونات الصدور من الكيس أو العجز، ولا يعدل بالسلامة شيء، وطلب الستر من الله، عز وجل، وطلب الثبات إذا ما نزل ابتلاء على حد:

وتجلدي للشامتين أريهم ******* أني لريب الدهر لا أتضعضع

وطلب السلامة في الدين والدنيا في كل وقت: طلب كل أولئك حتم لازم.

وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ: تفريع عما سبق، فالمولى مستند متوليه، عليه يتوكل وإليه يلجأ على جهة القصر، وفيه تعريض بمن اتصف بضد وصف الإيمان من الكفران، بذمه إذ ليس له من حكم التوكل نصيب فرعا عن انتفاء علته الإيمانية عنه.

والله أعلى وأعلم.

ـ[مهاجر]ــــــــ[25 - 08 - 2009, 07:32 ص]ـ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير