ثامناً: تأثر البيئة بالحركة العلمية: فقد خالط حفظ العلم في بلاد شنقيط حياة الناس هناك؛ ففي بلاد الزوايا (21)، يعتبرون من تقصير الأب في حق ابنه إذا بلغ وهو لا يحفظ القرآن حفظاً متقناً ولا يعرف من الأحكام ما يقيم به عباداته، ولا من العربية ما يصلح به لسانه، بل ينظرون إليه نظرة ازدراء واحتقار وأنه قد عق ابنه وقصّر في تربيته. وكان من عادة أهل الشيخ القاضي (اجيجبه) أن لا يتسرول (22) الشاب منهم حتى يتم دراسة مختصر خليل، فحفظ المختصر عندهم شرط معتبر للرجولة وسمة للنضج.
وتجد أمثال العامة ومخاطباتهم خارج حلقات الدرس قد صبغت بلون المتون السائدة؛ فمن أمثالهم إذا أرادوا وصف الشيء بأنه بلغ إلى منتهاه يقولون: (لا حِق فلا إشكال) أي وصل في كذا إلى ذروته وعبارة (لاحق فلا إشكال) هي آخر جملة في مختصر الشيخ خليل.
ومن أمثالهم قولهم: (وحَذْفُ ما يُعلم جائز) وهو جزء من بيت من خلاصة ابن مالك في الألفية.
تاسعاً: عقد مجالس للمذاكرة والإنشاد والألغاز في العطلة المحضرية. وهي عطلة نهاية الأسبوع العمرية (الخميس وجناحاه مساء الأربعاء وصباح الجمعة).
فيعقد طلاب (الدولة) أو المنتهون مجالس السمر وغالباً تكون ليلة الخميس أو الجمعة يتذاكرون فيها ما درس خلال الأسبوع ويتبارون في تجويد حفظه وإتقانه، أو يحددون باباً أو فصلاً من كتاب يتحاجون فيه، وأعرف عدة مجالس في المدينة المنورة عقدت لهذا الغرض منها مجالس لبعض النساء عَقَدْنَهُ لمذاكرة حفظ القرآن والفقه والسيرة النبوية، ومن ذلك ما يُروى أن محمد بن العباس الحسني ـ وهو راوية شعر ـ ادعى ليلة في مجلس سمر أنه لا يسمع بيتاً من الشعر إلاّ روى القطعة التي هو منها، وذكر الكتاب الذي توجد فيه، فتصدى له حبيب ابن أمين أحد تلامذة العلامة حُرْمة بن عبد الجليل ـ رحمة الله على الجميع ـ فسأله من القائل:
لو كنت أبكي على شيء لأبكاني عصر تصرّم لي في دير غسّانِ
فقال ابن العباس: نسيت قائل هذا البيت وهو من قطعة أعرفها في حماسة أبي تمام، فدعي بالكتاب، وقلب ورقة ورقة، فلم توجد فيه فقال لهم حبيب: ها هي بقية الأبيات وذكرها:
دير حوى من (ثمار) الشام أودها وساكنوه لعمري خير سكان
دهراً يدير علينا الراح كل رشا خمصان غض بزنديه سُواران
وقال: إن القطعة من إنشائه، نظمها تعجيزاً لزميله، وساق دليلاً على صحة قوله أن دير غسان لا وجود له في أديرة العرب.
كان شيخ المحضرة الفقيه اللغوي الشاعر حرمة بن عبد الجليل (ت 1234هـ) ـ رحمه الله ـ حاضراً فالتفت إلى تلميذه حبيب وأنشأ على البديهة:
لله درك يا غليّم من فتى سن الغليم في ذكاء الأشيب
لستَ الصغير إذا تَنِدّ شريدةٌ وإذا تذاكر فتيةٌ في موكب
إن الكواكب في العيون صغيرة والأرض تصغر عن بساط الكوكب (23)
عاشراً: اغتنام لحظات السحر في تثبيت الحفظ، فلا تكاد تجد طالباً من طلاب المحضرة في وقت السحر نائماً بل يزجرون عن النوم في هذا الوقت.
حدثني الوالد ـ حفظه الله ـ قال: كان إذا صعب علينا حفظ شيء انتظرنا به السحر فيسهله الله علينا، ولا ريب أنها لحظات مباركة؛ لأنها وقت النزول الإلهي، ووقت الهبات والأعطيات (24). وساعات السحر هي لحظات الإدلاج التي أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسير إلى الله فيها كما في صحيح البخاري ـ رحمه الله ـ (واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة) وهي سير آخر الليل (25).
وذكر أهل العلم بالتفسير آثاراً عن بعض الصحابة والتابعين ـ رضي الله عن الجميع ـ في انتظار يعقوب ـ عليه السلام ـ لزمان الإجابة حين قال له أبناؤه: ((يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ)) [يوسف: 97] فقال: ((قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [يوسف: 98] أنه أخّرهم إلى وقت السحر (26).
وضابط وَقت السحر على الصحيح أنه قبل طلوع الفجر بساعة تقريباً على ما حققه الحافظ ـ رحمه الله ـ في الفتح.
وبعدُ .. أخي القارئ الكريم:
¥